تفسير سفر دانيال 2 +++ القمص تادرس يعقوب



تفسير سفر دانيال 2 +++ القمص تادرس يعقوب

رؤيا التمثال ... تفسير حلم نبوخذ نصر ملك بابل ( الحلم المنسي )

1. تاريخ الحلم:

"في السنة الثانية من مُلك نبوخذنصَّر حَلَمَ نبوخذنصَّر أحلامًا فانزعجت روحه وطار عنه نومه"
ربما يتساءل البعض كيف كان الحلم في السنة الثانية لحكم نبوخذ نصَّر وقام دانيال بتفسيره بينما كان هو والثلاثة فتية لازالوا طلبة تحت التمرين، لم يقفوا أمام الملك إلاَّ في نهاية الأيام (1: 18)، أي بعد ثلاث سنوات (1: 5)؟ 
أ. عبارة "ثلاث سنين" قد تُشير هنا إلى جزء من السنة الأولى والسنة الثانية وجزء من السنة الثالثة (قارن 2 مل 18: 9-10؛ إر 34: 14؛ مر 8: 31)، بحيث تشمل سنة التدريب الأولى جزءً من سنة ارتقاء نبوخذ نصَّر إلى العرش، والسنة الثالثة جزءً من سنة ملكه الثاني بالحساب البابلي .

ب. يرى البعض أن السنة الثانية هنا تعني بعد خراب أورشليم والهيكل وتحطيم المجتمع اليهودي عام 588 أو 587 ق.م.
ج. الرأي الأرجح والأكثر قبولًا أن ما ورد في الأصحاح الأول كان في أيام نبوخذ نصَّر حين كان مساعدًا لوالده نبوبلاسر في الحكم، أما هنا فيقصد السنة الثانية من الحكم عندما تسلمه منفردًا.

نبوخذ نصَّر صار ملكًا شريكًا مع والده كعادة الكثير من الملوك في ذلك الحين. حينئذ حاصر أورشليم كملك شريك وقائد للجيش، ثم اضطر إلى ترك الحصار والدخول مع فرعون في معركة كركميش لتمرُّده عليه... وكان والده لا يزال حيًا. وإذ عاد وحاصر أورشليم عام 606 أو 605 ق.م. حيث تم الترحيل الأول، مات والده وانفرد بالحكم. بهذا يتفق النص مع ما ذكره التاريخ. بمعنى آخر كان دانيال ورفقاؤه يتدربون على حكمة الكلدانيِّين في أواخر أيام نبوخذنصَّر كشريكٍ مع والده، ثم وقف أمامه في السنة الثانية من حكمه المنفرد وبعد انقضاء مدة التدريب.

يقول القديس جيروم إن السنة الثانية هنا بعد أن ملك ليس فقط على اليهود والكلدانيِّين وإنما على كل الأمم الأخرى مثل أشور ومصر. لهذا يقول يوسيفوس أن نبوخذ نصَّر حلم حلمًا عجيبًا عن الأمور المستقبلية بعد نصرته على مصر .

يذكر هنا أنه حلم "أحلامًا" بصيغة الجمع، مع أنه لم يرد هنا سوى حلم واحد، لكنه استخدم صيغة الجمع بسبب ما يحمله الحلم من مواضيع كثيرة، أو ربما حلم الملك أحلامًا كثيرة على فترات طويلة تحمل ذات المعنى، وجاء الحلم الأخير يبعث فيه الارتباك، فأرسل إلى المجوس والحكماء يسألهم في أمر هذا الحلم.

لماذا لم يذكر نبوخذ نصَّر الحلم للحكماء؟ يجيب القديس جيروم على هذا التساؤل، قائلًا: لقد بقي الحلم في قلب الملك أشبه بظل، أقول، مجرَّد صدى أو آثار للحلم، حتى إذا أعاد آخرون الحلم أمامه يقدر أن يستعيد ما قد رآه، وبالتالي بالتأكيد لن يخدعوه بالأكاذيب. ربما مما ضاعف ارتباكه هو نسيانه للحلم، فشعر بالحاجة إلى من يذكِّره به. الله الذي أعطاه الرسالة بالحلم جعله ينساه ليزيد من ارتباكه، مع أنه عادة يتجاهل الناس الأحلام التي ينسونها.

ربما كان نبوخذ نصَّر يفكر في مستقبل العالم ويطلب إرشادًا من الآلهة، لذا كشف له الرب عن أزمنة الأمم (لو 21: 24). فرأى أن حكمه ينهار ليعقبه إمبراطوريات تظهر وتختفي حتى يملك الرب أبديًا. أدرك الملك وهو يحلم أنه يرى أمورًا غير عادية، وأن هناك رسالة من العالم الآخر موجهة إليه، لا يعلم ما هي. لذا إذ استيقظ نسي تفاصيل الحلم، كل ما يعرفه أنه حلم غريب مُقدم له من السماء، لذا طلب من يذكره بما رآه ويكشف له سره.
الله الذي قدم للملك الحلم، هو بنفسه نزع ذكرى تفاصيله من ذهن الملك حتى يرتبك جدًا ويلجأ إلى الحكماء والعرافين. هذا حدث فيما بعد مع الملك أحشويرش حيث أُصيب بأرقٍ ولم يستطع أن ينام، فأخذ يتصفح سجلات القصر ليبدأ الله معه بالعمل لخلاص شعبه من هامان الشرير (إس 6: 1).

2. الحلم المنسي:

هذه الأحلام وأمثالها هي أمثلة لعمل الله القدير في الخفاء لصالح مؤمنيه.

يميِّز العلامة ترتليان في مقاله "عن النفس"، بين الأحلام بناءً على مصادرها الثلاثة :

أ. أحلام من الشيطان، تبدو أحيانًا صادقة ونافعة، لكنها مخادعة.

ب. أحلام من الله، كما حدث مع نبوخذ نصَّر الوثني، وذلك من قبل رحمته بكل البشريَّة.

ج. أحلام تتم كعمل طبيعي في حياة الإنسان اليومية، غالبًا ما تكون كرد فعلٍ لسلوكه، ففي المساء حيث يكون الرقيب الداخلي للنفس خاملًا تتراءى أحداث اليوم بما تحمله من اشتياقات ومخاوف ومن أفراح وأحزان في شكل أحلام.

لذا يُقال الجائع غالبًا ما يحلم بالخبز، والعطشان بينابيع مياه.

"فأمر الملك بأن يُستدعى المجوس والسحرةُ والعرَّافون والكلدانيُّون لُيخبروا الملك بأحلامهِ، فأتوا ووقفوا أمام الملك"

يُستخدم تعبير "الكلدانيِّين" ليعني البابليِّين بصفة عامة، لكنه فيما بعد اُستخدم في معنى ضيِّق ليعني طبقة الحكماء وحدهم.
يظن بعض النُقاد المتحررين أن كلمة "كلدانيِّين" في عصر دانيال كانت تعني شعب كلديا Chaldea وليس فئة معينة منهم. لكن يقول A.W. Criswell أن الاكتشافات الأثريَّة دلت على صحة ما سجله دانيال النبي، فأنها كانت في عصره تعني فئة كهنوتية تخدم الإله بل Bel أو بعل وكانوا يشكلون صفوة المجتمع.

واضح من هذه العبارة أن الملك شعر بأن الحلم يحمل رسالة إلهية سماوية، فقد سبق وحلم كثيرًا ولم يهتم، لكنه في هذه المرة استدعى كل المجوس والسحرة والعرَّافين والكلدانيِّين فقد حلَّ الرعب به، وافقده قدرته على النوم، فشعر بأن السماء تعلن له سرًّا خطيرًا.


في البداية، فرح السحرة والعرَّافون بدعوة الملك، إذ ظنُّوا أنه يطلب مشورتهم في أمرٍ ما، أو يروي لهم حلمًا فيفسرونه له، وبهذا ينالون هدايا وهبات من عنده. لم يخبروا دانيال وأصدقاءه بدعوة الملك لهم وذلك بدافع الطمع والحسد. أثار اليهود التساؤل: لماذا لم يدخل دانيال وأصدقاؤه إلى الملك؟

يقدم القديس جيروم إجابة اليهود على التساؤل: عندما وعد الملك بهباتٍ وعطايا وكرامة عظيمة لم يهتموا أن يقفوا أمامه لكي يظهروا بلا عيب، فلا يطلبون غنى الكلدانيِّين وكرامتهم. أو كان الكلدانيُّون أنفسهم دون شك يحسدون اليهود على سمعتهم وعلمهم فدخلوا وحدهم أمام الملك لكي ينالوا المكافآت لأنفسهم. بعد ذلك طلبوا بجدية أن يكون معهم هؤلاء الذين جحدوا أي رجاء في المجد ليساهموا في حلَّ كارثة عامة.

ولعل عدم استدعاء دانيال ورفقائه مع المجوس كان بناء على طلب الملك الذي وإن كان قد اختبر حكمتهم فوجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في مملكته (1: 20)؛ لكنه لم يكن بعد قد وثق في أمانتهم وإخلاصهم له ولمملكته، فلم يرد أن يسألهم في أمر يشعر أنه يمس كيان المملكة.

سواء كان المجوس هم السبب أو الملك فإن الله سمح بذلك لكي لا يدخلوا مع جملة السحرة والعرَّافين... كان يجب تمييزهم عنهم لأنهم يعملون بروح الرب لا بالسحر والعرافة. على أي الأحوال، قدم عزلهم عنهم الفرصة ليتمجد الله فيهم وبهم.

"فقال لهم الملك قد حلمت حلمًا، وانزعجت روحي لمعرفة الحلم.

فكلَّم الكلدانيُّون الملك بالآراميَّة:

عش أيها الملك إلى الأبد.أخبر عبيدك بالحلم فنبَيِّن تعبيرهُ."


اعترف الملك بجهله لمعرفة تفسير الحلم، وضعفه أمام رسالة هذا الحلم.

إذ قالوا له: "عش أيها الملك إلى الأبد"، لم يكن ذلك مجرَّد تحية بسيطة، لكنهم رأوا علامات القلق تملأ وجهه، فسألوه أن يكون متهللًا بروح طيبة وأن ينزع كل قلقٍ من روحه، فأنهم قادرون على تفسير الحلم في يقينٍ شديدٍ.

"فأجاب الملك وقال للكلدانيِّين:
قد خرج منيّ القول إن لم تنبئُوني بالحلم وبتعبيره تصيرون إربًا إربًا وتُجعل بيوتكم مزبلة"


مع أنهم تحدثوا معه في اعتزاز كمن كانوا واثقين أنهم يستجيبون لطلبته، فوجئوا أنه يطلب منهم ما ليس في استطاعتهم، وفوق حدود فنونهم وعلمهم، إن كان بالحقيقة لهم معرفة أو علم.
لقد كان هؤلاء الحكماء والسحرة أنصاف آلهة في أعين رجال الدولة والشعب. الآن صاروا في موقفٍ مهين للغاية، كثمرة طبيعية للتشامخ والعجرفة، حيث نسبوا لأنفسهم ما ليس لهم.
هذا التهديد الخطير كشف عن عنف الملك ووحشيته، كما أعطى الفرصة لانتشار الخبر على مستوى واسع، فتمجد الله بالأكثر خلال عمله بواسطة دانيال النبي.

"وإن بيَّنتُم الحلم وتعبيره تنالون من قبلي هدايا وحلاوين وإكرامًا عظيمًا، فبيِّنوا ليّ الحلم وتعبيره" .

إذ كان الملك يعرف أنهم طمَّاعون ومحبون للمجد الباطل وعدهم بهدايا جزيلة ومكافآت مع كرامة.

"فأجابوا ثانية وقالوا: ليُخبر الملك عبيده بالحلم فنُبيِّن تعبيره.
أجاب الملك وقال: إنِّي أعلم يقينًا أنكم تكتسبون وقتًا إذ رأيتم أن القول قد خرج منيِّ.

بأنه إن لم تُنبئوني بالحلم فقضاؤكم واحد.
لأنَّكم قد اِتَّفقتم على كلام كذبٍ وفاسدٍ لتتكلموا به قُدَّامي إلى أن يتحول الوقت.
فأخبروني بالحلم فأعلم أنكم تُبيِّنُون ليّ تعبيره."


أصرّ المجوس على إخبارهم بالحلم، وفي عجرفة أكدوا إمكانيتهم في تفسيره. أضاف الملك إلى المجوس جريمة جديدة وهي جريمة الخداع أو الاتفاق على كلام كذبٍ وفاسد. فأنهم إذ عرفوا أنه نسي الحلم وتأكدوا من ذلك طلبوا منه أن يقصه لهم. لقد تأكد أنهم يكسبون الوقت لعلَّه يهدأ من ثورته ويعفو عنهم. خلال الحوار بين الملك والكلدانيِّين يظهر أنه كان يشك في أمرهم، أنهم يقدمون كلمات معسولة لكنهم غير صادقين في المعرفة. لقد حاولوا كسب الوقت حتى يهدأ من موجة غضبه فيغيِّر رأيه في أمر قتلهم. وقد جاءت كلمة "تكتسبون" بمعنى "تشترون"، أي يشترون الوقت الذي فيه ثورة وغضب حتى يعبر وينتهي.

أدرك الكلدانيُّون أن أمور المستقبل لا يعلنها إلاَّ الله. نشكر الله على محبته إذ جاءنا كلمة الله يخبرنا بكل شيء، وكما قالت المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكل شيء" (يو 4: 25).

"أجاب الكلدانيُّون قُدام الملك وقالوا:

ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يُبيِّن أمر الملك.

لذلك ليس ملكُ عظيم ذو سُلطان سأل أمرًا مثل هذا من مجوسي أو ساحر أو كلداني"


قدموا عذرًا عادلًا للملك، وهو أن ما يطلبه ليس في استطاعة إنسان على الأرض، ولم يذكر التاريخ مثلًا واحدًا لصاحب سلطان أن سأل أمرًا كهذا أن يخبره أحد بما رآه في حلمه. هكذا قدم الكل شهادة جماعية أنه إن أخبره أحد بالحلم، هذا لن يكون بعملٍ بشري، إنما هو عطية إلهية من السماء، لأن الله وحده يعرف أحلام الناس وأفكارهم الخفية. قدموا هذا شهادة لإله دانيال قبل أن ينطق دانيال بكلمة.

"والأمر الذي يطلبه الملك عَسر وليس آخر يُبيِّنه قُدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكُناهم مع البشر" .

يظن البعض أنهم يقصدون هنا الملائكة بكونهم وحدهم قادرين على تقديم هذا الحلم الغريب الذي جاء كإعلانٍ إلهيٍّ ومُحيّ من ذهن الملك لغرض إلهي، دون أن يزول الاضطراب من روحه. ويرى بعض الدارسين أنه يقصد الآلهة، إذ كان الكلدانيُّون يتعبدون لجمهور من الآلهة مع وجود إله أسمى وهو الحاكم وحده.

"لأجل هذا غضب الملك واغتاظ جدًا وأمر بإبادة كل حكماء بابل" .

لم يسترح الملك لإجابة المجوس بل اشتعل بالأكثر غضبه وتحول تهديده إلى أمر ملكي صدر بقتل كل حكماء بابل.

3. الأمر بقتل الحكماء:

"فخرج الأمر وكان الحكماء يُقتلُون،فطلبوا دانيال وأصحابه ليقتُلُوهم" .

لم يُطلب دانيال وأصدقاؤه حينما اُستدعى الحكماء بواسطة الملك للكشف عن الحلم وتفسيره، لكن حين صدر الأمر بقتل الحكماء طُلبوا ليُقتلوا معهم، ومع هذا لم يحملوا ضغينة أو كراهية لهم، بل قام دانيال بإنقاذهم دون كلمة عتابٍ واحدة.

4. تصرف دانيال:

"حينئذ أجاب دانيال بحكمة وعقل لأريوخ رئيس شُرط الملك الذي خرج ليقتل حكماء بابل.
أجاب وقال لأريوخ قائد الملك: لماذا اشتد الأمر من قبل الملك؟
حينئذ أخبر أريوخ دانيال بالأمر".

واضح من النص أن بعض الحكماء قُتلوا قبل طلب دانيال وزملائه للقتل. وكان لهذا القتل مع نشر المرسوم الملكي أثره على كل الأوساط في الدولة.

إذ طُلب دانيال لقتله، التقى برئيس شرط الملك وليس بالملك نفسه، لأنه كان تحت حكم الموت بناء على المنشور الصادر دون أي استثناء، فاحتاج إلى تدخل وسيط بينهما يوضح للملك أن الأمر شمل دانيال، بينما لم يُستدع مع المجوس للكشف عن الحلم.

فإن الأمر بقتله يحمل ظلمًا مع تسرع. هذا واضح من كلمات اللوم بلطفٍ واتزانٍ الموجهه من دانيال إلى الملك: "لماذا اشتد الأمر من قبل الملك؟!"

واضح من حديث دانيال مع رئيس الشرط أن دانيال يطلب ما لصالح الملك أكثر منه دفاعًا عن حياته الزمنية. فالحكم المفاجئ بموته ظلمًا لم يفقده حكمته واتزانه ولم يزعج روحه. أزعج الحلم روح الملك، بينما صدور أمر بالقتل لم يربك عقل دانيال، لا لشيء إلاَّ لأن حياة دانيال وفكره وقلبه هي تحت قيادة روح الله. هذا ما يظهر بأكثر وضوح بطلبه مهلة من الملك للتمتع بإعلان إلهي. يطلب بثقة ويقين أن نعمة الله تسنده وتقدِّم له احتياجاته. لقد عرف أن هذا الطلب له خطورته فأنه إن عاد اليوم التالي بلا إجابة تكون عقوبته مضاعفة، حيث يُسرع الملك بقتله ربما بطريقة أكثر عنفٍ وعارٍ، كما يُشهَّر بأمره علانية.

"فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتًا فيُبيِّنُ للملك التعبير.
حينئذ مضى دانيال إلى بيته وأَعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر ليطلبوا المراحم من ِقبَل إله السموات من جهة هذا السرَّ لكي لا يهلك دانيال وأصحابه مع سائر حُكماء بابل"


طلب الكلدانيُّون معرفة الحلم لكي يفسروه، أما ما طلبه دانيال فهو مهلة زمنية قصيرة ليقف أمام كاشف الأسرار ويهبه السرَّ.

بالقول: "مضى دانيال إلى بيته" إشارة أن الملك أعطاه مهلة زمنية لكي يُعدّ نفسه للِّقاء معه، ربما لمدة يومٍ واحدٍ. بلاشك كان الملك يود الرد السريع لمعرفة حلمه ونزع اضطراب روحه، لكن دانيال غالبًا طلب هذا اليوم ليتمتع بإعلان إلهي يكشف له عن الحلم وتفسيره، فأمهله الملك.

إذ أُعطيت له المهلة الزمنية من قِبل الملك لم يلجأ إلى المكتبة ليقرأ، ولا إلى أصدقائه لطلب مشورة، إنما ذهب إليهم لمساندته بالصلوات. لقد كان دانيال ملاصقًا لله لكنه كان يشعر بالحاجة إلى صلوات وشفاعات أصدقائه لدى الله؛ هكذا كان يطلب الرسول بولس من الشعب أن يصلوا لأجله لكي يعطيه الرب حكمة عند افتتاح فمه. هكذا دخلت التجربة به وبأصدقائه إلى صلوات أعمق وشركة مع الله.

طلب دانيال وقتًا لا ليبحث في السرائر بمهارة قدرته العقلية، وإنما لكي يطلب رب السرائر. لهذا السبب طلب من حنانيا وميشائيل وعزريا أن يشتركوا معه في الطلب، ليتحاشى مظاهر الظهور بأنه وحده يستحق ذلك، هذا وإذ كانوا مشتركين في الخطر العام يشتركون في صلاة عامة ++ القديس جيروم

إذ تحدث دانيال مع أصدقائه دعى الله "إله السموات"، ولم يقل "إله إسرائيل"، لأنه يعلم أن إسرائيل قد أخطأ ولم يعد مستحقًا أن يُنسب الله إليه لأجل عصيانه، إنما يُنسب إلى السماء التي بالحب تخضع لإرادته. اُستخدم هذا اللقب في أسفار نحميا وحزقيال ودانيال بكونها أسفارًا ترتبط بالسبي، فيظهر كأن الله قد فارق شعبه إلى حين، ليقدموا توبة جماعية فيرجع ويسكن في وسطهم؛ كما ذكر هذا اللقب في سفر الرؤيا حيث يرفع قلبنا إلى السماء، فنرى إلهنا يحملنا إلى سمواته، ويُدعى إله السموات.

سند الفتية الثلاثة دانيال بصلواتهم لا طمعًا في مقاسمته مكافأة من قبل الملك، ولا لنزع العار عنه، وإنما ليتمجد الله في نبيه في أرض السبيّ.

لقد كانت أعين هؤلاء الأتقياء متّجهة نحو "المراحم" الإلهية، فهي وحدها سندنا وقت الضيق.

5. كشف السرّ:

سمح الله لدانيال بالضيقة ليدخل إلى بيته ويلتقي بإله السموات، فيرفع قلبه وفكره إلى السماء، ويكتشف أسرارًا أعمق، ويتمتع بمعرفة تملأ كيانه عذوبة تبتلع كل ضيقٍ. ما أحوجنا أن ندخل كل يوم إلى بيتنا، أورشليمنا الداخليَّة، لنلتقي بذاك الذي يحملنا من هموم هذه الحياة ويدخل بنا إلى عربون الأبدية.

حينئذ لدانيال كُشف السر في رُؤيا الليل.فبارك دانيال إله السموات.

إذ طلب دانيال ورفقاؤه من الرب بغير ارتياب قدم الله لهم سؤل قلبهم، وكما يقول يعقوب الرسول: "ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئًا من عند الرب" (يع 1: 6-7). الله قريب من الذين يصرخون إليه بالحق وفي إخلاص مع إيمان.

أجاب دانيال وقال:
ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد،لأن له الحكمة والجبروت.

إذ كشف الله لدانيال عن السرّ لم يفكر في لقائه مع الملك، ولا انشغل بما ناله، بل قدم تسبحة جديدة للرب، ناسبًا لله الحكمة التي نالها والقوة التي تمتع بها. أنه يمجد الله ضابط التاريخ بيده، والذي لا يُخفى عنه شيء، وهما أمران لا ينفصلان عندما يُعلن جلال الله.

وهو يغير الأوقات والأزمنة. يعزلُ ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا.يعطي الحكماء حكمة ويُعلم العارفين فهمًا.

كثيرون يعترفون بوجود الله وقدرته وحكمته لكنهم يحسبونه معزولًا عن حياة البشريَّة بوجه عام، وعن حياتهم بوجه خاص؛ أما دانيال فيسبح الله العامل في حياة الكل، برحمته العلوية. إن وُجد أُناس أقوياء في العمل وحكماء، فإن الله وحده هو مصدر القوة والحكمة، لا يحرمنا منهما. مسيحنا هو حكمة الله كقول الرسول: "لله الحكيم وحده بيسوع المسيح" (رو 16: 27)، نقتنيه فنقتني الحكمة.

الإنسان المُعاصر مع كل صباح يتوقع تغييرات مستمرة على المستوى العالمي، يقرأ الصحف بشغف مترقبًا ماذا يحدث من جديد. أما أولاد الله فيرتفع قلبهم مع كل صباح ليروا ويُدركوا خطة الله نحو خلاص العالم، هذا الذي في يده كل دقائق الأحداث على كل المستويات: العالمية والمحلية والكنسية والشخصية. مع كل صباح يُسبح الله على عنايته الفائقة المُشرقة دومًا بالعمل المُستمر. يرى المؤمن حركة دائمة في السماء كما في الطبيعة وفي حياة البشرية وفي حياته الخاصة. كلها تُسبح الله الحكيم والقدير وحده. أما قوله "يُعطي الحكماء حكمة"، فتعني أن الله وهب الإنسان حكمة طبيعية، وهي هبة إلهية. فإن كان أمينًا في هذه الحكمة الطبيعية ناسبًا إياها لله وذلك بروح الاتضاع، يُقدم له حكمة سماوية أعظم، وهكذا بالنسبة للمعرفة، فإن كنا أمناء في القليل يُقدم لنا الكثير؛ لأن من له يُعطى فيزداد.

"هو يكشف العمائق والأسرار.يعَلَم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور"

يتحدَّث هنا بصفة خاصة عن نعمة النبوة حيث يُحسب الله أنبياءه مفسري أسراره لبني البشر. هذه نعمة تُعطى لبعض الأخصاء الأمناء، حسب ما فيه بنيان الجماعة وإعلان مجد الله.

إذ يسكن الله في النور يدخل برجاله إلى النور، محطمًا مملكة إبليس، أي الظلمة. شتان ما بين السحرة أبناء الظلمة ودانيال ابن النور!
يميِّز القديس أغسطينوس بين التمتع باكتشاف الرؤيا بالروح وبين فهم الرؤيا بالذهن. فكما نعبد الله بالروح والذهن (1 كو 14: 15)، هكذا أدرك دانيال النبي الرؤيا الإلهيَّة بروحه واكتشف فهمها بذهنه.

أعظم الأنبياء هو من يُمنح العطيَّتين، أعني الرؤيا بالروح للتشبيهات الرمزية بأمورٍ ماديَّة، وفهم هذه الأمور بقوة الذهن الحيوية.

هكذا كان دانيال الذي أُختبر سمو مركزه وتأسس ليس فقط عندما أخبر الملك عن الحلم الذي رآه بل وشرح معناه (دا 2: 27؛ 4: 16-24). لقد ظهرت له الصور المادية نفسها (الحلم) بالروح، واُعلن له عن فهمها بذهنه. إننيِّ استخدم هنا كلمة "الروح" بنفس المعنى الذي يستخدمه بولس عندما يميِّز بين الروح والذهن ++ القديس اغسطينوس

"إيَّاك يا إله آبائي أحمد وأسبِّح،الذي أعطاني الحكمة والقوة،وأعلمني الآن ما طلبناه منك،لأنَّك أعلمتنا أمر الملك"

يُمجد دانيال الله "إله آبائه"، أي إله الكنيسة الحية الممتدة عبر العصور. الله الذي عمل في القديم عجائب مع آبائه يعمل الآن مع دانيال، ويعمل في العصور المتتالية إلى انقضاء الدهر. يقول القدِّيس أكليمنضس السكندري:إن الله واهب الحكمة والعلم والمعرفة والفلسفة الحقة.

يدعو الكتاب المقدس كل علمٍ علماني أو فنٍ حكمة، ويُحسب الابتداع الفني والمهارة هما من الله. هذا يظهر واضحًا إذ نورد العبارة التالية: "وكلم الرب موسى: "اُنظر، قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور، من سبط يهوذا، باسمه، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة" (خر 31: 1-2).

الذين هم حكماء في الذهن لهم عزوة خاصة بالطبيعة منسوبة إليهم، والذين يظهرون أنفسهم قادرين أن يتسلَّموا من "حكمة العلي" لهم روح إدراك مضاعف.

يعطي الله حكمة من فمه الخاص، ومعرفة مع فهم، ويخزن عونًا للأبرار.

قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية لليونان للبرّ. والآن فهي تبلغ بالإنسان إلى التقوى بكونها نوعًا من التدريب يهيِّئ الذين بلغوا إلى الإيمان خلال البرها +++القدِّيس أكليمنضس السكندري

"فمن أجل ذلك دخل دانيال إلى أريوخ الذي عينه الملك لإبادة حكماء بابل.
مضى وقال له هكذا: لا تَبِد حكماء بابل.أدخلني إلي قُدام الملك، فأُبيِّن للملك التعبير"


لماذا طلب دانيال من أريوخ أن يتوقف عن قتل الحكماء مع أنهم سحرة ويسلكون كأتباع للشيطان؟
أ. لم يطلب هذا لأنهم أبرار، بل لأن الحكم بقتلهم صدر ظلمًا، إذ لا يستطيع أحد أن يعرف الأحلام إلاَّ الله وحده.
ب. لم يكونوا يهودًا سمعوا الشريعة التي تُحرم السحر والعِرافة.
ج. بتوقف قتلهم يعطيهم هم وعائلاتهم ومعارفهم فرصة لإدراك عمل الله الحقيقي في حياة أنبيائه.

سرعان ما استجاب الله لصلوات دانيال ورفقائه، ولم ينسَ دنيال أن يشكر الله قبل أن يتقدم إلى الملك ويخبره بالحلم وتفسيره. لقد شعر دانيال وهو في السبيّ برعاية الله الفائقة، الله الضابط الكل يُحدد المواعيد والأزمنة. فبعد قرون جاء السيِّد المسيح، وحرص القادة اليهود إلاَّ يمسكوه ويقتلوه في عيد خشية تجمُعات الشعب. ومع هذا تمَّت خطَّة الله بقتله في فترة عيد الفصح ليؤكد أنه الفصح الحقيقي، فيه تحققت الرموز الخاصة بالأعياد.


يُعلق القديس هيبوليتس الروماني على كشف السرّ لدانيال قائلًا: بقي الحلم سرًا بالنسبة للذين لهم الفكر الأرضي، أما الذين يطلبون السماويات فتُعلن لهم الأسرار السماويَّة.
أظهر لهم الله أن ما هو مستحيل بالنسبة للإنسان ممكن بالنسبة لله.

يرى القديس هيبوليتس الروماني أن اسم أريوخ يعني حرفيًا "رئيس الجزارين" أو "رئيس الطباخين".

6. لقاء مع الملك:

"حينئذ دخل أريوخ بدانيال إلى قُدام الملك مُسرعًا. وقال له هكذا:
قد وجدت رجلًا من بني سبيّ يهوذا الذي يُعرف الملك بالتعبير"


قدم أريوخ دانيال للملك كمن صنع خيرًا للملك يستحق المكافأة، إذ يقول له: "قد وجدت رجلًا..."، بينما لم ينسب دانيال لنفسه شيئًا، بل أعطى كل المجد لله.

لقد سبق أن دخل دانيال إلى الملك وطلب منه مُهلة ليُقدم له السرّ، فلماذا يقدمه أريوخ كما لو كان الملك على غير علمٍ بأمر دانيال؟ ربما لأن الملك قد أعطى دانيال مُهلة يومٍ واحدٍ، لكنه في حديثه الودي مع أريوخ أظهر يأسه من أن دانيال أو غيره من الحكماء يمكن معرفة السرّ، حاسبًا أن مُهلة اليوم التي قدمها لدانيال إنما هي لتبرير عدالته في قتل كل الحكماء بما فيهم دانيال.

أجاب الملك وقال لدانيال الذي اسمه بلطشاصَّر:
هل تستطيع أنت على أن تُعرِّفني بالحلم الذي رأيت وبتعبيره؟"


واضح من هذا التساؤل يأس الملك من وجود إنسان قادرٍ على اكتشاف الحلم ومعرفة تفسيره. تحدث الملك مع دانيال مؤكدًا استحالة تحقيق الأمر، هذا مجَّد الله بالأكثر، وأظهر عمله الفائق مع دانيال.

أجاب دانيال قُدام الملك وقال:
السرّ الذي طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجِّمون على أن يُبيِّنوه للملك.
لكن يُوجد إله في السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذنصَّر ما يكون في الأيام الأخيرة.
حلمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا"


في بدء حديثه مع الملك أوضح أن الحلم نبوي، مؤكدًا فكرة الملك بأن الحلم ليس حلمًا عاديًا بالمرة. مادام الحلم ليس طبيعيًا ولا بشريًا لهذا لا يقدر إنسان ما أن يُظهره أو يُفسره، إنما الله الذي أعطى الملك الحلم بروحه يكشف سرًّه.

لقد وهبه الله إعلانًا عما يكون في الأيام الأخيرة، حيث يسقط كل ملكٍ ليقوم آخر بدلًا منه، حتى يأتي ملك الملوك ويُقيم ملكوته الروحي في القلوب.

"أنت يا أيها الملك أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا، وكاشف الأسرار يُعرِّفك بما يكون"

أثارَ دانيال مشاعر الملك بالأكثر حين أخبره أن حلمه ليس حلمًا طبيعيًا إنما هو صعود لأفكاره وارتفاع لها لتنعم بحضرة الله كاشف الأسرار، الذي حباه بهذا الحلم.

"أما أنا فلم يكُشف ليّ هذا السرّ لحكمة فيَّ أكثر من كل الأحياء.
ولكن لكي يعرِّف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك"


الله بحكمته رفع أفكار الملك ليتمتع بسرّ خاص بالأيام الأخيرة، لكنه لم يستطع أن يفهم الحلم؛ أما دانيال فلم ينل الحلم بل نال معرفة حلم الملك ومعرفة تفسيره. لم ينسب دانيال لنفسه الحكمة ولا المعرفة أكثر من غيره من بني البشر، إنما يُقدم المجد لله الذي يكشف له السرّ لئلا يثور الملك ويخطئ في حق الله الذي أعطاه الحلم ثم نزع عنه تذكره كما لم يُقدم له التفسير، قال دانيال: الله الذي وهبك الحلم وهبك إيَّاي مفسرًا للحلم. وكأن كل ما يحدث إنما بخطة إلهية مُحكمة.
ربما يسأل أحد: هل يحدثنا الله الآن بالأحلام؟ أنه قادر أن يفعل ذلك، لكنه يعطينا ما هو أعظم، إذ يقول بولس: "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 2).

7. التمثال المعدني:

"أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثالٍ عظيمٍ.هذا التمثال العظيم البهي جدًا وقف قُبالتك ومنظره هائل"
ربما يتساءل البعض: لماذا قدم الله هذا الحلم الخاص بالممالك الأربع التي تنتهي بمجيء السيِّد المسيح لنبوخذنصَّر وليس لدانيال؟

أ. لو أن الحلم قُدم لدانيال فأعلنه وأعلن عن تفسيره، لما سمع به كل اليهود المُشتتين في الدولة البابلية، وأيضًا البقية الباقية في إسرائيل. لكنه إذ أُعلن للملك الذي اضطربت روحه وكاد أن يَقتل جميع الحكماء والسحرة والعرافين، انتشر الأمر في كل المملكة، وأمكن لكل يهودي أن يتساءل عن السرّ الإلهي وراء هذا الحلم.

ب. إذ يخص الحلم مجيء السيِّد المسيح مخلص العالم، أراد أن يسمع به الأمم لعلهم يتابعون أمر مجيء المُخلص.

"رأس هذا التمثال من ذهبٍ جيدٍ.
صدره وذراعاه من فضةٍ.
بطنه وفخذاه من نُحاس.
ساقاه من حديد.
قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف
"

بعد أن عرض دانيال الحلم لم يسأل: "هل هذا هو الحلم؟"، بل في ثقة ويقين أن ما أعلنه له الله صدق قال: "هذا هو الحلم؟" كان الملك يستمع إليه في صمت مع دهشة، فقد أخبره دانيال بالحلم في دقة شديدة.

يُلاحظ في هذا الحلم الآتي:

1. رأى الملك تمثالًا ملوكيًا عظيمًا، جاء في الأصل "صورة واحدة عظيمة"، فمع اختلاف معادنه هو تمثال واحد. كل الممالك المتعاقبة مع اختلاف إمكانياتها في نظر الله هي تمثال واحد، أو قوة زمنية واحدة، بهيَّة جدًا في أعين المنتفعين بها، ومرعبة (هائلة) بالنسبة للذين يسقطون تحت ضغط هذه القوى. لم يرَ الملك صورًا كثيرة أو تماثيل بل صورة واحدة مع أن الممالك الأربعة تختلف عن بعضها البعض، بل قامت كل مملكة على أنقاض الأخرى. ففارس قامت بغلبتها على بابل، ومقدونيَّة على حساب فارس، والدولة الرومانية على حساب المقدونية. مع اختلاف هذه الممالك تشترك في مقاومتها لإرادة الله، لهذا فهي تمثل وحدة واحدة مقاومة للحق.

2. رأس التمثال من ذهب، وينتهي بالقدمين من حديد وخزف، ففي هذا إشارة إلى انحلال العالم شيئًا فشيئًا وضعفه وفساده المتزايد عبر الأجيال.

3. هنا يتحدث عن كل مملكة ككل، وليس عن ملوك بأعينهم. فإن كان كورش قد وُجد يحمل صفات نبيلة مع حكمة واتزان لكن مملكة فارس ككل تحمل فسادًا ومقاومة للحق.

4. قُدم هذا الحلم لملكٍ وثنيٍ، لكي إذ يتعرف عليه اليهود المسبيُّون الذين يشتاقون إلى العودة إلى بلدهم لا يصابون بحالة إحباط عندما تظهر مملكة فارس لتحكم بابل ثم اليونان فالرومان، وفي هذا كله لم تعد تظهر بعد إسرائيل كما في أيام داود الملك أو سليمان، لأن الله يوَدْ تقديم مملكة ابن داود، الحجر الذي يضرب التمثال ويصير جبلًا عظيمًا، تمتدّ مملكته الروحية على مستوى العالم كله!

لقد أراد أن يُوجه أنظارهم من انتظار مملكة زمنية إلى ملكوت أبدي روحي.

5. تجاهل مملكة أشور، لأن الحلم لا يُقصد به تسجيل التاريخ بل قيادة الكل نحو السيد المسيح مخلص العالم. لهذا لم يذكر الممالك السابقة، بل بدأ بمملكة بابل.

6. وُصف نبوخذنصَّر في هذا الحلم وهذه الرؤيا ب "الرأس من ذهب" فهو الذي جعل من بابل إمبراطورية عالمية لها مجدها وعظمتها وسيادتها وسلطانها، لهذا جعله الوحي الإلهي ليس مؤسسًا لهذه الإمبراطورية فحسب، بل صوّره على أنه هو وبابل واحد، فقد كان رمزًا لها وممثلًا لعظمتها، كقوله: "أليست هذه هي بابل التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30)، أو كما وصفه الوحي: "أنت أيها الملك الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت وبلغت إلى عنان السماء، وسلطانك إلى أقصى الأرض" (دا 4: 22). كان نبوخذنصَّر ملكًا وقائدًا عسكريًا ومعماريًا وعبقريًا فذًا، وكان سلطانه سلطانًا مباشرًا وبلا حدود على كل من خضع لصولجانه.

رمز الوحي الإلهي لهذا الملك ولمملكته بالذهب الذي يرمز في الكتاب المقدس إلى العظمة والرفعة والسمو. كما اشتهرت المملكة أيضًا بوفرة ما كان فيها من ذهب. يقول هيرودوت الذي زار بابل بعد نبوخذنصَّر بحوالي 90 سنة (450 ق.م.)؛ أنه لم يرَ ذهبًا في الأرض بمثل هذه الوفرة التي رآها في بابل، خاصة في معابدها وهياكلها ومذابحها وأوانيها ومعداتها، وروى غيره من المؤرخين عما رأوه من مصنوعات الذهب الخالص.

7. وقد رمز لمملكة فارس ومادي بالفضة التي تُشير في الكتاب المقدس إلى الغنى والطلب المتواصل للمال "فمن يحب الفضة لا يشبع" (جا 5: 10)، كما باع يهوذا السيد المسيح بالفضة (لو 22: 5). وكانت كلمة "فضة" في كل اللغات السامية هي نفس كلمة "مال". وكانت هذه الإمبراطورية محبة للمال جدًا وقد طورت نظامًا واسعًا للضرائب والتي كانت تدفع بالفضة، وبسبب هذا النظام الضرائبي جمع ملوك مادي وفارس ذخيرة واسعة من الأموال الفضية. وقد تنبأ دانيال النبي في رؤياه الثالثة (11: 2) عن أحد ملوك الفرس الذي "سيكون أغناهم" وكان يعني أحشويرش الذي جمع كل فضة أبيه داريوس وملوك الفرس الآخرين.

"أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتدارًا وسُلطانًا وفخرًا.وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلَّطك عليها جميعها.فأنت هذا الرأس من ذهب"

وكانت عبارة "ملك ملوك" هي لقب مستخدم لكثير من حكام الشرق، فقد كشفت النقوش المسمارية أنه كان لقبًا عامًا بين الفرس، وبين الإثيوبيِّين والبابليِّين. يُلقب نبوخذنصَّر في سفر حزقيال أيضًا بلقب "ملك الملوك" (حز 7: 25)، وقد امتد سلطانه على كل العالم المتحضر في زمانه، خاصة الأمم التاريخية مثل مصر وفلسطين وآسيا الصغرى. وبهذا المعنى صارت بابل مملكة عالمية، وكانت النموذج الأول والبداية كممثلة لكل القوى العالمية التاليّة لها.

ويُلاحظ هنا أن دانيال لم يتملَّق الملك بل دعاه الرأس الذهبي للتمثال الذي يتحطم تمامًا، وأنه ستقوم بعده مملكة أخرى. وحينما يقول "أنت هذا الرأس" لا يقصد به هو شخصيًا بل مملكة بابل التي من أشهر ملوكها نبوخذنصَّر. وقد عُرف هذا الملك بالقسوة والعنف، كما عُرف الملك بيلشاصر باستخفافه بالله الحق.

"وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاسٍ فتتسلَّط على كل الأرض"

دعى مملكة فارس أصغر من مملكة بابل، ليس من جهة اتساع الرقعة ولا ضعف في القوة والسلطان أو الغنى، إنما هي أصغر بسبب تزايد الفساد والوحشية. حتى كورش المُتزن والحكيم في بعض الأمور استخدم الوحشية وهو يحاول السيطرة على العالم كله في كل اتجاه.

تحدث بعد ذلك على مملكة المقدونيِّين التي تسلطت على كل الأرض، يدعوها "نحاسية"، ليس لأنها أكثر صلابة من مملكة فارس، لكن لأنها أكثر رداءة، حتى متى قورنت بها تكون كالنحاس بالنسبة للفضة.

وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد، لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكُسر تسحقُ وتكُسر كل هؤلاء.
وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون مُنقسمة، ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مُختلطًا بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًا والبعض قصمًا.
وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين فأنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف"


ينطبق الحديث هنا على مملكة الرومان (58 ق.م- 76 ق.م.). إذ انقسمت المملكة المقدونية إلى أربعة أقسام بعد موت الإسكندر، وقام الرومان بإخضاع الأقسام الأربعة. دُعيَ قياصرة الرومان حديدًا إشارة إلى قسوتهم التي فاقت قسوة ملوك الممالك السابقة، كما كانت أقوى بكثير من الإمبراطوريات السابقة. أما اختلاط الحديد بالخزف فيُشير إلى عدم وجود الوحدة الحقيقية، كما يُشير إلى الفساد.

لما كانت الدولة الرومانية لم تستعمر الأراضي المقدسة حتى سنة 63 ق.م. لذلك نادي الدارسون العقلانيون الذين يرفضون الوحي الإلهي والنبوات بأن سفر دانيال كُتب في فترة المكابيِّين حوالي 167-165 ق.م، وأن الكاتب لا يتنبأ إنما يُسجل حقائق تاريخية سابقة تخص الممالك الأربع: الكلدانيَّة، مادي، فارس، اليونان. لأنهم إن قبلوا فكرة المملكة الرابعة بكونها الدولة الرومانيَّة يكون الكاتب قد تنبأ عنها قبل قيامها بحوالي 100 عامًا. وقد سبق فرأينا ما تؤكده الشواهد أن الكاتب في الواقع هو دانيال النبي في القرن السادس ق.م. ليس فقط قبل قيام الدولة الرومانيَّة بل وقبل قيام الدولة اليونانيَّة.

يقول القس عبدالمسيح أبو الخير:

أ. عُرفت الجيوش الرومانيَّة بالجيوش الحديديَّة، واستخدم دانيال النبي كلمة "حديد" في وصف هذه الإمبراطورية 14 مرة. ومن ثم اعتقدت الكنيسة منذ فجرها بأن هذه الإمبراطورية هي الإمبراطورية الرومانيَّة. وكان هذا هو رأي أقدم الآباء الذين وصلتنا كتاباتهم عن سفر دانيال؛ مثل القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني الميلادي والقديس هيبوليتس في القرن الثالث والقديس جيروم في القرن الرابع وذهبي الفم في القرن الرابع أيضًا (347-403 م). ويقول أحد المفسرين ويدعى جوزيف ميدى Joseh Mede: اعتقدت الكنيسة اليهودية قبل زمن مخلصنا أن الإمبراطورية الرابعة في سفر دانيال هي الإمبراطورية الرومانيَّة، وهذا المعتقد تسلمه تلاميذ الرسل وكل الكنيسة المسيحيَّة لمدة 300 سنة.

ب. ما يبرهن أيضًا على صحة هذا التفسير، وبالتالي إعجاز الوحي والنبوة في سفر دانيال، وعظمة الكتاب المقدس، وأنه كلمة الله، هو أن مملكة المسيَّا، المسيح المنتظر، بدأت في أيام هذه الإمبراطورية، إذ تقول النبوة في الحلم والرؤيا: "وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر". فقد ولد السيِّد المسيح في أيام هذه الإمبراطورية، وجاء ميلاده في بيت لحم بسبب أمر قيصرها، إذ يقول الوحي في العهد الجديد وفي بداية الإنجيل للقدِّيس لوقا: "وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة" (لو 2: 10)، ويؤرخ بداية خدمة يوحنا المعمدان سفير المسيح بتواريخ إمبراطورها وولاتها "وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس واليًا على اليهوديَّة... كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية" (لو 3: 1-3). ودفع لها السيِّد المسيح الضرائب عن نفسه وعن تلاميذه (مت 17: 24-27)، وكان يتعامل بعملتها (مت 22: 17-21)، وبحسب قوانينها صُلب (يو 19: 21).

ج. كانت الإمبراطورية الرومانيَّة أكثر استمرارية من الإمبراطوريات التي سبقتها، فقد استمرت الإمبراطورية البابليَّة 70 سنة، والإمبراطورية الماديَّة الفارسيَّة 200 سنة، والإمبراطورية اليونانيَّة 130 سنة، ولكن الإمبراطورية الرومانيَّة دامت واستمرَّت 500 سنة كإمبراطورية موحدة وغير منقسمة، واستمرت بقسميها الشرقي والغربي إلى سنة 1453م عندما استولى الأتراك على القسطنطينية واستمر القسم الغربي من خلال بقية دول أوروبا حتى اليوم، وهذه الدول نقلت حضاراتها وجزء كبير من شعبها إلى الأمريكتين وأستراليا بعد اكتشافهما، حتى صارا جزئين منها.

د. يقول القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني في تفسيره لقول النبوة "فالمملكة تكون منقسمة"، وفي إشارته للعشرة أصابع "العشرة أصابع إذًا هي الملوك العشرة التي ستنقسم إليهم المملكة، وسيكون بعضهم قوي وفعال، وبعضهم الآخر كسول وبلا فائدة، ولكن يتفقوا.

ويقول القديس جيروم: إنه يلاحظ أن النبوة قد تمت في عصره جزئيًا في دمار الإمبراطورية بالعداء الداخلي والحروب الأهلية. وقد تمت فيما بعد في التقسيم إلى إمبراطورية شرقية وإمبراطورية غربية، وتمت أخيرًا بتقسيمها إلى ولايات صغيرة كثيرة. ويرى القديس هيبوليتس أن الأصابع العشرة التي من حديد ومن خزف تعني الديموقراطيات التي كانت ناهضة ومقسمة بين الأصابع العشرة للتمثال التي سيكون فيها الحديد مختلطًا بالخزف.

ز. يرى البعض أن اختلاط الحديد بالخزف يُشير إلى اختلاط عناصر حضارتين محددتين، دخول السلالات البربرية إلى قلب الإمبراطورية المتحضرة واتخاذ البرابرة لأشكال الحضارة. ومن ثم فإن اقتحام القبائل الجرمانية من جهة والأتراك من جهة أخرى، هو تفسير أقرب للمعنى الحقيقي للرمز في النبوة.

8. الحجر العجيب:

"كُنت تنظر إلى أن قُطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما.
فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعُصافة البيْدر في الصيف،فحملتها الريح فلم يُوجد لها مكان.
أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها"


أهم ما في الحلم هو هذا الحجر العجيب القادر أن يُحطم هذه الممالك ليقيم ملكوتًا روحيًا يملأ الأرض، ملكوتًا يثبت إلى الأبد. هنا يتحدث عن مملكة جديدة يُقيمها الحجر المقطوع بغير يدين، إذ جاء السيد المسيح ليس من زرع بشر، بل مولودًا من العذراء.

يُشير تعبير "لا بيدين" إلى طبيعة مملكته أنها ليست بشرية بل سماوية إلهية، لا بداية له.

أما دعوة السيد المسيح بالحجر أو الصخرة، لأنه حجر الزاوية الذي ضم اليهود مع الأمم في إيمانٍ واحدٍ، أي ربطهما كحائطين يضمهما حجر الزاوية. وهو الحجر الذي عليه تتأسس كنيسته. قيل عنه:

"الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؛ من قِبَل الرب كان هذا هو عجيب في أعيننا" (مز 118: 22). يدعوه إشعياء النبي: "حجر صدمة وصخرة عَثرة لبني إسرائيل" (إش 8: 14). و"حجر امتحان حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا" (إش 28: 16). ويقول زكريا النبي: "فهوذا الحجر الذي وضعته قدام يهوشع على حجرٍ واحدٍ سبع أعين" (زك 3: 9، راجع أع 4: 11، 1 بط 2: 7-8).

بعد هذا يبقى أن "الحجر يأتي من السماء، الذي ضرب التمثال (الصورة) وأرعبه وحطَّم كل الممالك ويعطي الملكوت لقديسي الله العلي.

الحجر الذي يضرب الصورة ويجعلها قطعًا، هذا الذي يملأ الأرض كلها هو المسيح الذي جاء من السماء وأتى بدينونة على العالم ++ القديس هيبوليتس الروماني

لهذا السبب أيضًا إذ رأى دانيال مقدمًا مجيئه قال بأن حجرًا مقطوعًا بدون يدين يأتي إلى العالم. فإن هذا ما يعنيه "بدون يدين" أن مجيئه إلى هذا العالم لا يتم بعمل بشري، أي بعمل هؤلاء الذين اعتادوا أن يقطعوا الحجارة. ليس ليوسف دورًا في ذلك إنما تعاونت مريم وحدها مع الخطة (الإلهية) السابق تدبيرها. وُجد هذا الحجر الذي من الأرض بقوة الله وحكمته. لذلك يقول أيضًا إشعياء: "هأنذا أؤسس في صهيون حجرًا... حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا" (إش 28: 16). هكذا، إذن نفهم أن مجيئه في الطبيعة البشرية لم يتحقق بإرادة إنسان بل بإرادة الله +++ القديس إيريناؤس

يُشير هذا الجبل إلى مملكة اليهود، ومن هذا الجبل قُطع، حيث وُلد المسيح. حينما يقول: "بدون يدين" نفهم أنه بدون أي عمل بشري، لأن الأعمال تُعرف بالأيدي +++ الأب قيصريوس

هذا هو هيكل الجسد الذي أُخذ وقُطع من جبل الطبيعة البشرية وكيان الجسد، وذلك بدون أيدي، أي بدون عمل البشر ++ العلامة أوريجانوس

وُضع حجر كبير على البئر (تك 29) حيث اعتاد رعاة كثيرون أن يدحرجوه عندما يأتون معًا، وعندئذ يقدمون ماءً لأنفسهم ولمواشيهم. لكن يعقوب وحده دحرج الحجر وسقى مواشي عروسه... ما هو هذا الحجر الموضوع إلاَّ المسيح نفسه...؟ دانيال أيضًا يقول: "حجر مقطوع بدون يدين"، الذي هو المسيح المولود بدون (زرع) رجل. إنه لأمر جديد وعجيب أن يُقطع حجر من الصخرة بدون فأس أو أدوات لقطع الحجارة، هكذا فوق كل عجب أن يظهر نسل من عذراء لم تتزوج ++ القديس غريغوريوس النيسي


9. تفسير الحلم:

"هذا هو الحلمُ.
فنُخبر بتعبيره قُدام الملك.وفي أيام هؤلاء الملوك يُقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكُها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتُفنى كل هذه الممالك وهي تَثبُتُ إلى الأبد.
لأنَّك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبلٍ لا بيدين،
فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب.
الله العظيم قد عَرفَ الملك ما سيأتي بعد هذا.
الحلم حق وتعبيره يقين"



10. دانيال الممجد:
"حينئذ خرَّ نبوخذنصَّر على وجهه،وسجد لدانيال،وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور"
لم يكن بالأمر السهل أن يخر نبوخذنصَّر ويسجد لدانيال هذا الذي يحسب نفسه أشبه بإله، يسجد كل البشر له؛ خاصة وأن دانيال لم يُقدم له أنباء مفرحة بل أكد له أن مملكته تزول. مع هذا شعر الملك بضعفه الشديد أمام عمل الله وخطته. انحنى الملك باتِّضاع يُمجد إله دانيال، ولكن إلى حين كما سبق ففعل فرعون (خر 9: 27؛ 10: 16). لمس نبوخذنصَّر نفسه يد الله القوية وشهد لذلك وأعلن: "ما أعظم معجزات الله العلي، وما أقوى عجائبه، ملكوته ملكوت أبدي، وسلطانه إلى جيل فجيل"، لكنه فقد هذا إذ ارتبط بحب المجد الباطل، وبحياة الترف خنق الشوك الكلمة التي نبتت فيه.

فأجاب الملك دانيال وقال:

"حقًا إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار،إذ استطعت على كشف هذا السر"

لقد مجد الله لكن إلى حين، إذ لم يتخذ خطوات جدية لخلاص نفسه. لقد سمح الله بذلك لتشجيع اليهود المسبيِّين، فيدركوا أن الله قادر أن يتمجد فيهم إن رجعوا إليه بكل قلوبهم.

"حينئذ عظم الملك دانيال،وأعطاه عطايا كثيرة،وسلَّطه على كل ولاية بابل،وجعله رئيس الشحَنِ على جميع حكماء بابل" .

قبل دانيال عطية الملك لأجل خدمة شعبه، لهذا اهتم بتعيين الفتية الثلاث على أعمال ولاية بابل، مع إدراكه أنهم لا يشتهون شيئًا من كرامات هذا العالم وغناه، إنما فعل هذا من أجل إخوته المسبيِّين.

11. رفقاء دانيال:

"فطلب دانيال من الملك فولَّى شدرخ وميشخ وعبدنغو على أعمال ولاية بابل.
أما دانيال فكان في باب الملكِ" .


كان دانيال في باب الملك كرئيس لرجال القصر لكي تكون عيناه ترقبان كل تحرُّك وكل إنسان يدخل القصر. ربما عني بهذا أنه تسلَّم القضاء في الأمور التي تمس القصر الملكي، حيث كانت العادة القديمة أن تُقام محال القضاء عند باب القصر.

لم يشته دانيال وأصحابه أمورًا زمنية، بل طلبوا ملكوت الله وبرّه، فأعطاهم الله هذا وذاك.
عندما سألوا الأمور السماوية من الرب، تقبلوا أيضًا الأمور الزمنية من الملك ++ القديس هيبوليتس الروماني