من كتاب انطلاق الروح +++ البابا شنودة الثالث
التحرر من القيود
كانت الساعة السابعة مساء، والسكون يخيم علي أرجاء المكان، حين بدأت وأبي الراهب نضرب بأقدامنا في رمال الصحراء، نتمشى حينا ونقف حينا آخر، متأملين في موضوعات أسمى من أن يكتبها قلم بشري.. وقد طال بنا التجوال ونحن لا ندرى، أو نحن لا نود أن ندرى، حتى استقر بنا المطاف أخيرًا علي عتبة الدير، فجلسنا نناقش موضوع: انطلاق الروح.
رواسب وقيود
لست أعنى انطلاق الروح من الجسد، ذلك المعنى الذي قصده سمعان الشيخ حين قال "الآن يا رب أطلق عبدك بسلام حسب قولك". أنما أعنى انطلاق الروح وهى ما تزال في الجسد، انطلاقها من كل ما يحيطها من رباطات وقيود، حين يبدأ السلام الكامل ويعيش الإنسان في حرية أولاد الله.
أترى يا أخي العزيز الطفل بعد عماده وروحه حرة طليقة كما أوجدها الله فيه، ثم أتعرف ماذا حدث لها؟!
لقد أرسب عليها العالم والعرف والبيئة رواسب عدة، وتقيدت من جراء ذلك وغيره بقيود كثيرة تعوق انطلاقها إلي حيث تريد ان تذهب لتتحد بالله وتثبت فيه، وكل ما يبحث عنه أولاد الله هو انطلاق الروح من كل هذا: انطلاقها من قيود العالم والبيئة، وانطلاقها أيضًا من قيود الحس والحكمة البشرية.
وهنا التفت الأب الراهب وقال: هل يحسب البعض أن السيد المسيح عندما قال: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات.
كان يقصد: أن لم تصغروا وتصيروا مثل الأطفال ...كلا. بل كان يود أن يقول: أن لم تكبروا في الروح جدًا حتى تصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات؟
قيود الحس
وقف أمام القديس مقاريوس الكبير راهب حاربه البر الذاتي حتى ظن أنه تخلص من الزنا وحب المال والغضب، فسأله الأب القديس عما يشعر به إذا رأى امرأة: فقال أعرف أنها امرأة ولكني أهرب لئلا أشتهيها. فسأله أيضًا عن شعوره إذا رأى مالا ملقى في الصحراء، أيستطيع أن يفرق بينه وبين الحصى؟!
فأجاب بأنه يستطيع ذلك ولكنه يمنع نفسه من محبة المال، وسأله القديس ثالثًا عن شعوره إذا أهانه أحد، فأجاب بأنه يحس أنه أهين ولكنه لا يبيت الغيظ في قلبه.
وهنا التفت القديس إلي الراهب وأخبره أنه ما يزال تحت الآلام. وأنه في حاجة إلي جهاد أكثر. وبدأ يعظه.
إنها قيود الحس يا صديقي القارئ التي تجعل المرء يفرق بين الرجل والمرأة، المتقدمة في السن والفتاة الشابة، وبين الفتاة "الجميلة" و"غير الجميلة".
أنها قيود الحس أيضًا التي تجعله يفرق بين النقود والحصى... وماذا أذن عن الإهانة والمديح؟
ذهب أحد الرهبان إلي القديس مقاريوس وطلب منه نصيحة، فأمره القديس أن يذهب ويمدح الموتى فذهب ومدحهم فلم يرد عليه منهم أحد، فأمره القديس أن يذهب ويشتد عليهم في القول، ففعل ذلك فلم يرد عليه أحد.
فقال القديس للراهب: وهكذا أنت ما دمت قد مت عن العالم فيجب أن تشبه هؤلاء الموتى، لا تتأثر في شيء، وإنما سيان عندك أن مدحك الناس أو ذموك.
وفي أحدى المرات أحضر أحد الأثرياء هبة مالية إلي الدير لتفرق علي الرهبان، ولكي يقدم رئيس الدير لهذا الثرى عظة عملية، وضع المال جانبا وأمر بدق الناقوس فأجتمع الرهبان، فطلب إليهم الأب الرئيس أن يصنعوا محبة ويأخذوا ما يحتاجونه من هذا المال، ولم يأخذ أحد منهم شيئًا رغم الإلحاح الشديد، تأثر الرجل الثرى جدًا، وطلب أن يترهب.
أن العالم يا آخى الحبيب والجسد أيضًا قد أرسب على إحساساتنا رواسب عديدة كان من نتائجها أن أشياء عالمية كثيرة مادية وجسدية أصبحت تبدو لنا في صورة أجمل من غيرها وأكثر جاذبية وأعمق أثرًا في النفس. وعندما تسموا الروح، وعندما تنطلق إلي حد ما مما يعرقل طريقها من القيود، عند ذلك سيرقى إحساسها جدًا، أو قل ستنطلق من الحس العالمي، وتفهم الأمور بإدراك روحي آخر.
هل إذا طال بك السفر بعيدًا عن أسرتك، ثم قابلتهم بعد هذا الفراق الطويل فعانقوك في محبة وفي شوق زائد، هل وسط تلك المحبة التي سبحت فيها روحك، ستحس أن أباك الرجل يختلف عن أمك المرأة، وأخيك الفتى، وأختك الفتاة. وهل عامل الإنقاذ في الحرائق أو حوادث الغرق يحس أن الجسم الذي يحمله منقذا إياه من الهلاك، هو جسم فتى أو فتاة، أو رجل أو امرأة؟! كلا بل أؤكد لك انه لو أحسن شيئًا من هذا لعرض نفسه للموت هو ومن يعمل علي إنقاذه.
ألا ترى أذن أن الروح تسمو على الحس، وأن هناك أوقات يتعطل فيها الحِس كليًا أو جزئيًا لانهماك الروح فيها هو أعظم..؟
وهكذا أنت في حياتك الروحية عليك أن تتخلص بقدر الإمكان من قيود الحس. وعندئذ ستنظر إلي الأمور بمنظار آخر: سوف لا تحاربك الشهوة، شهوة العين أو شهوة الجسد أو شهوة المال أو شهوة الناس أو تعظم المعيشة. بل تكون كملائكة الله في السماء تنظر إلي كل شيء بتلك {النظرة البسيطة} التي قال عنها السيد المسيح في عظته علي الجبل: {إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا} {مت22:6}.
علي أن هذه الأفكار لم تكن موضوع الحديث بين أبى الراهب وبيني، فقد كنا نتكلم فيما هو أعمق من هذا، في موقف الحس عند تفهم الإلهيات والتأمل فيها: أن الأحساس الجسدي جسدي ومحدود لذلك فهو لا يستطيع أن يفحص الله الروح غير المحدود. ثم أن الحس البشرى عرضه للخطأ، وكثيرًا ما يخطئ في التمييز بين الخطأ والصواب.
لقد رجع التلاميذ الي السيد المسيح فرحين وقالوا له: {حتى الشياطين أيضًا تخضع لنا باسمك} فرد عليهم السيد: {لا تفرحوا بهذا} {لو10: 17، 20} إذ أن إحساسهم كان خاطئًا.
أنظر أيضًا إلي القاتل الذي ثأر لنفسه أو أنتقم لشرفه، ألا يغمره أحساس بالرضى كأنه أتى عملًا جليلًا. أنه حس خاطئ. وأنت كذلك يا أخي المحبوب قد تراودك في صلواتك وخلواتك وتأملاتك أحساسات كثيرة: أمتحنها جيدًا فقد تكون أحساسات بشرية غير سليمة.. وحاول أن تطلق روحك من قيود الحس.
بقى أن أقول لك الإحساس بالعالم وموجوداته يتعطل عند الاستغراق في الإلهيات. كانت حنه تصلي في الهيكل. كانت منسكبة النفس أمام الله فلم تشعر بما يدور حولها حتى أن عالي الكاهن حسبها سَكرَى فقال لها: {إلي متى تسكرين. قومى انزعى خمرك عنك}.{1صم1: 13، 14}.
وهكذا أنت: أن كنت منصرفا بكليتك إلي الصلاة أو التأمل فسوف لا تشعر اطلاقًا بما يدور حولك. قد يتكلم البعض إلي جوارك وقد تقوم ضجة. وقد تتهادى مناظر كثيرة، وأنت لا تدرى عن كل ذلك شيئًا لأنك منهمك في أمور أخرى في عالم الروح. أن حسك معطل نسبيا لأن روحك؟ لا أدري، ولكني أعلم أن القديس يوحنا القصير كانت تمر عليه في تأملاته فترات يتكلم فيها الناس إليه فلا يسمع صوتهم ولا يدرى ماذا يقولون، ويسأله السائل مرة أخرى فيجيبه القديس {ماذا تريد يا ابني؟} ويكرر السائل طلبه ولا يسمعه القديس أيضًا. لأن روحه منشغلة بأشياء أخرى أهم وأعمق وألصق بالسمع والذاكرة. وكانوا يسألونه أحيانًا أسئلة فيجيبهم عنها بتأملات لاهوتية لا علاقة لها بما يسألونه عنه، لأنه لم يسمع ما قالوه.
كانت روحه منطلقة من الحس.
التحرر من القيود
كانت الساعة السابعة مساء، والسكون يخيم علي أرجاء المكان، حين بدأت وأبي الراهب نضرب بأقدامنا في رمال الصحراء، نتمشى حينا ونقف حينا آخر، متأملين في موضوعات أسمى من أن يكتبها قلم بشري.. وقد طال بنا التجوال ونحن لا ندرى، أو نحن لا نود أن ندرى، حتى استقر بنا المطاف أخيرًا علي عتبة الدير، فجلسنا نناقش موضوع: انطلاق الروح.
رواسب وقيود
لست أعنى انطلاق الروح من الجسد، ذلك المعنى الذي قصده سمعان الشيخ حين قال "الآن يا رب أطلق عبدك بسلام حسب قولك". أنما أعنى انطلاق الروح وهى ما تزال في الجسد، انطلاقها من كل ما يحيطها من رباطات وقيود، حين يبدأ السلام الكامل ويعيش الإنسان في حرية أولاد الله.
أترى يا أخي العزيز الطفل بعد عماده وروحه حرة طليقة كما أوجدها الله فيه، ثم أتعرف ماذا حدث لها؟!
لقد أرسب عليها العالم والعرف والبيئة رواسب عدة، وتقيدت من جراء ذلك وغيره بقيود كثيرة تعوق انطلاقها إلي حيث تريد ان تذهب لتتحد بالله وتثبت فيه، وكل ما يبحث عنه أولاد الله هو انطلاق الروح من كل هذا: انطلاقها من قيود العالم والبيئة، وانطلاقها أيضًا من قيود الحس والحكمة البشرية.
وهنا التفت الأب الراهب وقال: هل يحسب البعض أن السيد المسيح عندما قال: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات.
كان يقصد: أن لم تصغروا وتصيروا مثل الأطفال ...كلا. بل كان يود أن يقول: أن لم تكبروا في الروح جدًا حتى تصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات؟
قيود الحس
وقف أمام القديس مقاريوس الكبير راهب حاربه البر الذاتي حتى ظن أنه تخلص من الزنا وحب المال والغضب، فسأله الأب القديس عما يشعر به إذا رأى امرأة: فقال أعرف أنها امرأة ولكني أهرب لئلا أشتهيها. فسأله أيضًا عن شعوره إذا رأى مالا ملقى في الصحراء، أيستطيع أن يفرق بينه وبين الحصى؟!
فأجاب بأنه يستطيع ذلك ولكنه يمنع نفسه من محبة المال، وسأله القديس ثالثًا عن شعوره إذا أهانه أحد، فأجاب بأنه يحس أنه أهين ولكنه لا يبيت الغيظ في قلبه.
وهنا التفت القديس إلي الراهب وأخبره أنه ما يزال تحت الآلام. وأنه في حاجة إلي جهاد أكثر. وبدأ يعظه.
إنها قيود الحس يا صديقي القارئ التي تجعل المرء يفرق بين الرجل والمرأة، المتقدمة في السن والفتاة الشابة، وبين الفتاة "الجميلة" و"غير الجميلة".
أنها قيود الحس أيضًا التي تجعله يفرق بين النقود والحصى... وماذا أذن عن الإهانة والمديح؟
ذهب أحد الرهبان إلي القديس مقاريوس وطلب منه نصيحة، فأمره القديس أن يذهب ويمدح الموتى فذهب ومدحهم فلم يرد عليه منهم أحد، فأمره القديس أن يذهب ويشتد عليهم في القول، ففعل ذلك فلم يرد عليه أحد.
فقال القديس للراهب: وهكذا أنت ما دمت قد مت عن العالم فيجب أن تشبه هؤلاء الموتى، لا تتأثر في شيء، وإنما سيان عندك أن مدحك الناس أو ذموك.
وفي أحدى المرات أحضر أحد الأثرياء هبة مالية إلي الدير لتفرق علي الرهبان، ولكي يقدم رئيس الدير لهذا الثرى عظة عملية، وضع المال جانبا وأمر بدق الناقوس فأجتمع الرهبان، فطلب إليهم الأب الرئيس أن يصنعوا محبة ويأخذوا ما يحتاجونه من هذا المال، ولم يأخذ أحد منهم شيئًا رغم الإلحاح الشديد، تأثر الرجل الثرى جدًا، وطلب أن يترهب.
أن العالم يا آخى الحبيب والجسد أيضًا قد أرسب على إحساساتنا رواسب عديدة كان من نتائجها أن أشياء عالمية كثيرة مادية وجسدية أصبحت تبدو لنا في صورة أجمل من غيرها وأكثر جاذبية وأعمق أثرًا في النفس. وعندما تسموا الروح، وعندما تنطلق إلي حد ما مما يعرقل طريقها من القيود، عند ذلك سيرقى إحساسها جدًا، أو قل ستنطلق من الحس العالمي، وتفهم الأمور بإدراك روحي آخر.
هل إذا طال بك السفر بعيدًا عن أسرتك، ثم قابلتهم بعد هذا الفراق الطويل فعانقوك في محبة وفي شوق زائد، هل وسط تلك المحبة التي سبحت فيها روحك، ستحس أن أباك الرجل يختلف عن أمك المرأة، وأخيك الفتى، وأختك الفتاة. وهل عامل الإنقاذ في الحرائق أو حوادث الغرق يحس أن الجسم الذي يحمله منقذا إياه من الهلاك، هو جسم فتى أو فتاة، أو رجل أو امرأة؟! كلا بل أؤكد لك انه لو أحسن شيئًا من هذا لعرض نفسه للموت هو ومن يعمل علي إنقاذه.
ألا ترى أذن أن الروح تسمو على الحس، وأن هناك أوقات يتعطل فيها الحِس كليًا أو جزئيًا لانهماك الروح فيها هو أعظم..؟
وهكذا أنت في حياتك الروحية عليك أن تتخلص بقدر الإمكان من قيود الحس. وعندئذ ستنظر إلي الأمور بمنظار آخر: سوف لا تحاربك الشهوة، شهوة العين أو شهوة الجسد أو شهوة المال أو شهوة الناس أو تعظم المعيشة. بل تكون كملائكة الله في السماء تنظر إلي كل شيء بتلك {النظرة البسيطة} التي قال عنها السيد المسيح في عظته علي الجبل: {إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا} {مت22:6}.
علي أن هذه الأفكار لم تكن موضوع الحديث بين أبى الراهب وبيني، فقد كنا نتكلم فيما هو أعمق من هذا، في موقف الحس عند تفهم الإلهيات والتأمل فيها: أن الأحساس الجسدي جسدي ومحدود لذلك فهو لا يستطيع أن يفحص الله الروح غير المحدود. ثم أن الحس البشرى عرضه للخطأ، وكثيرًا ما يخطئ في التمييز بين الخطأ والصواب.
لقد رجع التلاميذ الي السيد المسيح فرحين وقالوا له: {حتى الشياطين أيضًا تخضع لنا باسمك} فرد عليهم السيد: {لا تفرحوا بهذا} {لو10: 17، 20} إذ أن إحساسهم كان خاطئًا.
أنظر أيضًا إلي القاتل الذي ثأر لنفسه أو أنتقم لشرفه، ألا يغمره أحساس بالرضى كأنه أتى عملًا جليلًا. أنه حس خاطئ. وأنت كذلك يا أخي المحبوب قد تراودك في صلواتك وخلواتك وتأملاتك أحساسات كثيرة: أمتحنها جيدًا فقد تكون أحساسات بشرية غير سليمة.. وحاول أن تطلق روحك من قيود الحس.
بقى أن أقول لك الإحساس بالعالم وموجوداته يتعطل عند الاستغراق في الإلهيات. كانت حنه تصلي في الهيكل. كانت منسكبة النفس أمام الله فلم تشعر بما يدور حولها حتى أن عالي الكاهن حسبها سَكرَى فقال لها: {إلي متى تسكرين. قومى انزعى خمرك عنك}.{1صم1: 13، 14}.
وهكذا أنت: أن كنت منصرفا بكليتك إلي الصلاة أو التأمل فسوف لا تشعر اطلاقًا بما يدور حولك. قد يتكلم البعض إلي جوارك وقد تقوم ضجة. وقد تتهادى مناظر كثيرة، وأنت لا تدرى عن كل ذلك شيئًا لأنك منهمك في أمور أخرى في عالم الروح. أن حسك معطل نسبيا لأن روحك؟ لا أدري، ولكني أعلم أن القديس يوحنا القصير كانت تمر عليه في تأملاته فترات يتكلم فيها الناس إليه فلا يسمع صوتهم ولا يدرى ماذا يقولون، ويسأله السائل مرة أخرى فيجيبه القديس {ماذا تريد يا ابني؟} ويكرر السائل طلبه ولا يسمعه القديس أيضًا. لأن روحه منشغلة بأشياء أخرى أهم وأعمق وألصق بالسمع والذاكرة. وكانوا يسألونه أحيانًا أسئلة فيجيبهم عنها بتأملات لاهوتية لا علاقة لها بما يسألونه عنه، لأنه لم يسمع ما قالوه.
كانت روحه منطلقة من الحس.