من تاملات يوحنا 11 +++ القمص تادرس يعقوب
إقامة لعازر من الأموات
"فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون،انزعج بالروح واضطرب".
هنا يظهر السيد المسيح أنه قد صار بالحقيقة إنسانًا يحمل مشاعر إنسانية، يشارك المتألمين، ويبكي مع الباكين. إنه رجل أحزان (إش ٥٣: ٣). لم يوجد قط ضاحكًا، لكنه في أكثر من موضع وًجد باكيًا.
لم يقل السيد المسيح لها شيئًا، ولا نطق بالأقوال التي قالها لأختها مرثا.، لأن جمعًا كثيرًا كان حاضرًا، ولم يكن وقت لتك الأقوال، لكنه تنازل إذ كشف عن طبيعته الإنسانية، ولم يرد أن يتخيلوا فيه شيئًا أكثر. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم
أنتم تنزعجون بغير إرادتكم، أما المسيح فانزعج لأنه أراد ذلك.
يسوع جاع، هذا حقيقي، إنما لأنه أراد.
كان حزينًا، هذه حقيقة، لكن لأنه أراد. في سلطانه أن يكون هكذا أو كذلك، يتأثر أو لا يتأثر. لأن الكلمة أخذ نفسًا وجسدًا حاملًا فيه نفس الطبيعة البشرية واحدًا مع الكلمة، المسيح الواحد. بهذا الكلمة الذي له سلطان فائق يستخدم الضعف رهن إشارة إرادته، وبهذا فقد "انزعج" ++ القديس اغسطينوس
"وقال: أين وضعتموه؟
قالوا له: يا سيد تعال وانظر".
إن سألت: لِم سأل هذا السؤال؟ أجبتك: إنه لم يرد أن يبادر هو، لكنه شاء أن يعرف من أولئك كل ما جرى، وأن يسألوه أن يعمل الآية حتى يستخلص الآية من كل تهمة. +++ القديس يوحنا ذهبي الفم
سيأتي المسيح إلى قبرك، وإذ يجد مرثا المرأة التي تقدم خدمة صالحة، ومريم التي تهتم بقلبها بكلمة اللَّه مثل الكنيسة المقدسة التي اختارت النصيب الصالح تبكيان، يحنو عند موتك يرى دموع الكثيرين فيقول: "أين وضعتموه؟" بمعنى في أية حال من الجريمة هو؟
في أية رتبة بين النادمين؟
أريد أن أرى من تبكون عليه، لكي ما يحركني بدموعه. سأرى إن كان قد مات فعلًا بالخطية فأعالجه بالمغفرة.
يقول له الشعب: "تعال وأنظر".
ما معنى "تعال"؟ لتأتِ مغفرة الخطايا، ولتأتِ الحياة إلى من رحل، والقيامة من الأموات، ليأتِ ملكوتك لهذا الخاطئ أيضًا. ++ القديس امبروسيوس
يا للعجب الذي جاء ليقيمه من الأموات يبدو كمن لا يعرف موضع القبر، إذ "قال: أين وضعتموه؟" . وكما يقول كثير من الآباء أن الله العالم بكل شيء يبدو كمن لا يعرف موضع الظلمة، ولا يعرف الشر ولا الأشرار. لهذا إذ أخطأ آدم في الجنة، سأل الرب: "أين أنت؟" (تك ٣: ٩). وفي يوم الدينونة يقول للأشرار: "لست أعرفكم" (مت ٧: ٢٣)، وهنا يتساءل: "أين وضعتموه؟"
لست أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه.
ماذا تعني "أنظر"؟ ترفق، فإن الرب ينظر حين يتحنن. لذلك قيل له: "أنظر إلى تواضعي وألمي، واغفر لي كل خطاياي" (مت ٩: ١٣) . ++ القديس اغسطينوس
"بكى يسوع".
جاء الفعل "بكي" هنا في اليونانية مختلفًا عما ورد عن بكاء مريم وجمهور المحيطين بها ، إذ لا يحمل العويل المرتفع مثلهم، بل انسياب الدموع من عينيه. إنها مجرد شهادة عملية لمشاعره العميقة ومشاركته للمتألمين أمام الجموع التي لم تدرك بعد كيف تواجه الموت. وقد وجدت الجموع في هذه الدموع شهادة حيَّة عن محبته للعازر.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كل ما صنعه السيد المسيح كان بحكمته الإلهية لكي تنتفع الجموع بصنع المعجزة، فمن جانب لم يتحدث مع مريم أمام الجموع بما قاله لمرثا حين التقت به منفردة. فقد تحدث عن إقامة لعازر. فلو سمعت الجموع ذلك حيث يحمل كثيرون له عداوة، لتركوه ورجعوا إلى أورشليم، ولم يروا إقامة لعازر.
من جانب آخر أكد ناسوته في تلك اللحظات، حتى لا تنفر الجموع إن تحدث عما يخص لاهوته.
بكى في صمت، واضطرب ثم تنهد كمن يكبح اضطرابه، وسأل عن موضع القبر... كل هذا أثار تساؤلات في أذهان اليهود، ورغبة في معرفة ما سيفعله دون نفورٍ من جانبهم.
ماذا فعل المسيح؟ لم يدخل معها في حوارٍ في ذلك الوقت، ولا قال لها ما قاله لأختها (لأنه لم يوجد جمع عظيم، وكان ذلك غير مناسب في ذلك الحين).
كل ما فعله كان بقياسٍ (معين) وتنازلٍ منه، ليؤكد طبيعته البشرية، إذ بكى في صمت، وأجَّل صنع الآية في ذلك الوقت . فإذ كانت الآية عظيمة، وإذ كان يمارس أمرًا خطيرًا حتى يؤمن كثيرون بها، وحتى لا يتممها في غير حضورهم، فتوجد عثرة للجمهور، ولا ينتفعون بعظمتها، وحتى لا يفقد الفريسة قدم شهادات كثيرة لتنازله وأظهر تأكيدًا لناسوته. وقد بكى واضطرب. فعادة يثير الحزن المشاعر، وإذ تنهد بالروح أي ضبط اضطرابه سأل: "أين وضعتموه؟" . القديس يوحنا ذهبي الفم
بكى الرب نفسه أيضًا من أجل لعازر نفسه الذي سيقيمه إلى الحياة، بلا شك لكي يسمح لنا بمثاله أن نبكي على موتانا، وإن كان لم يعطنا وصيته بذلك، هذا مع إيماننا بأنهم يقومون إلى الحياة الحقيقية. ليس اعتباطًا جاء في سفر الحكمة: "اسكب دموعًا على الميت، وأبدأ بالحزن كمن أصابه ضرر عظيم"، لكنه يكمل بعد قليل قائلًا: "ولتتعزى في حزنك، لأن بالحزن يحل الموت، وأسى القلب يبتلع القوة" (جا 17:38، 19). ++ القديس اغسطينوس
لكي يُظهر المخلص نفسه أن لديه مشاعر بشرية حقيقية حزن من أجل ذاك الذي سيُقيمه من الأموات.++ القديس جيروم
"فقال اليهود:أنظروا كيف كان يحبه".
إذ رأى اليهود دموع السيد قالوا: "انظروا كيف كان يحبه" ، ونحن إذ نرى دمه يتساقط من جسمه على الصليب نسبحه قائلين: "انظروا كيف يحبنا!"
ألا ترون أنه لم يُظهر بعد أية علامة على إقامته له، وذهب لا كمن يقيم لعازر بل كمن يبكيه؟ هكذا بدا لليهود أنه ذاهب لينتحبه لا ليقيمه، وذلك من قولهم: "انظروا كيف كان يحبه" . ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
"وقال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت؟"
في جهالة ظنوا دموع السيد المسيح علامة عجز وعدم قدرة على العمل، ولم يدركوا أنها دموع الحب والحنو، وأنه ليس فقط كان قادرًا أن يشفيه وإنما لا يزال قادرًا أن يقيمه حتى بعد أنأنتن جسمه.
لقد اعترف اليهود هنا أن السيد المسيح فتح عيني الأعمى، ولكنهم استكثروا عليه أن يجعل لعازر لا يموت. ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
"فانزعج يسوع أيضًا في نفسه، وجاء إلى القبر، وكان مغارة، وقد وُضع عليه حجر".
لا يفهم من انزعاج يسوع في نفسه فقدان سلامه الداخلي، لكنه كما أخلى ذاته ليحل بيننا كإنسانٍ حقيقيٍ كاملٍ، سمح بإرادته أن يدخل الانزعاج إلى نفسه حتى يشارك المنزعجين، فيحملهم إلى سلامه الإلهي.
"قال يسوع : ارفعوا الحجر.
قالت له مرثا أخت الميت:
يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة أيام".
أمر برفع الحجر حتى يرى كل الواقفين أن الجسد ملقى في القبر ميتًا، كما يشتمون الرائحة، فيتأكدون أنه أنتن، وعند خروجه من القبر لا يظنوا أنه خيال بل هو جسد حقيقي.
جاء اعتراض مرثا غالبًا بعد أن بدأوا يحركون الحجر فاشتمت الرائحة.
لماذا لم يدعُ لعازر وهو على بُعد من القبر ويأتي به أمام أعينهم؟ أو بالأحرى لماذا لم يجعله يقوم والحجر مُلقى على القبر؟ فإن ذاك القادر بصوته أن يحرك الجثمان ويظهره متمتعًا بالحياة مرة أخرى هل كان كثير عليه أن يدحرج الحجر بصوته؟
ذاك الذي له القوة بصوته أن يجعل من هو مربوط وملفوف بالأكفان يمشي هل كثير عليه أن يجعل الحجر يتحرك؟
فلماذا لم يفعل ذلك؟
لكي يجعل منهم شهودًا للمعجزة، فلا يقولون كما قالوا في معجزة الأعمى: "إنه هو"، "إنه ليس هو". فإن أياديهم ومجيئهم إلى القبر تشهد بالحق أنه هو.
لو لم يأتوا لبدا لهم أنهم نظروا رؤية أو أنه شخص عوض آخر.
الآن مجيئهم إلى الموضع ورفع الحجر والأمر بحل الميت الذي في الأكفان المربوطة، فإن الأحباء الذين حملوه إلى القبر يعرفون من الأكفان من هو. لم تترك أختاه خلفًا (من الجموع) إذ قالت إحداهما: "قد أنتن لأن له أربعة أيام" . أقول أن كل هذه كانت كافية لتبكم أصحاب الميول الشريرة، إذ صاروا شهودًا للمعجزة. ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
سيأتي ويأمر برفع الحجر هذا الذي سقط على كتفي الخاطئ.
كان يمكنه أن يحرك الحجر بكلمة أمره، لأنه حتى الطبيعة الجامدة تود أن تطيع أمر المسيح.
كان يمكنه بقوة عمله الصامت أن يحرك حجر القبر. هذا الذي أثناء آلامه تحركت حجارة كثيرة من قبور الأموات وانفتحت فجأة.
لكنه أمر الرجال أن يرفعوا الحجر بالحق حتى يؤمن غير المؤمنين بما يرونه، وينظرون الميت يقوم.
لكن هذا يحمل رمزًا ليهبنا قوة تخفيف ثقل الخطايا، الضغط الثقيل الذي على المجرم. من جانبنا نحرك الأثقال، ومن جانبه يقيم ويخرج من القبور أولئك الذين يتحررون من أربطتهم . ++ القديس امبروسيوس
الآن قيل: "لقد مات منذ أربعة أيام". فإنه بالحقيقة تبلغ النفس إلى هذه العادة التي أتحدث عنها بنوع من التقدم أربع مرات.
المرحلة الأولى: هي كما لو كانت إثارة اللذة التي في القلب.
والثانية: هي قبولها.
والثالثة: هي تحولها إلى عمل.
والرابعة: تحولها إلى عادة.
يوجد من يلقون عنهم الأمور الشريرة عن أفكارهم كأنهم لا يجدون فيها لذة.
ويوجد من يجدون فيها لذة، ولكنهم لا يوافقونها. هنا لا يكمل الموت لكن يحمل بداية معينة، فقد أضيف إلى الشعور باللذة موافقة. في الحال تحدث إدانة للشخص.
بعد الموافقة يحدث تقدم للموافقة إذ تتحول إلى عملٍ ظاهرٍ.
والعمل يتحول إلى عادة. فيحدث نوع من اليأس، حتى يُقال: "قد أنتن لأن له أربعةأيام". لذلك جاء الرب هذا الذي كل الأمور بالنسبة له سهلة. ومع هذا فوجد في هذه الحالة كما لو كانت هناك صعوبة. لقد اضطرب بالروح، وأظهر الحاجة إلى احتجاج كثير وعال ليقيم الذين تقسوا بالعادة. ولكن عند صرخة الرب تفجرت أربطة الضرورة. ارتعبت قوات الجحيم، وعاد لعازر حيًا. فإن الرب ينقذ حتى من العادات الشريرة هذا الذي له أربعة أيام ميتًا فإنه بالنسبة للرب وحده يُحسب راقدًا هذا الذي يريد الرب أن يقيمه . ++ القديس اغسطينوس
حتى إن كنت راقدًا في قبرك، فالرب يُقيمك، وإن كان جسدك قد أنتن . ++ القديس جيروم
يرى العلامة أوريجينوس أنه إذ أصدر السيد المسيح أمره "ارفعوا الحجر" أعاقت مرثا تنفيذ الأمر بكلماتها: "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام" ، بعد ذلك رفعوه.
هذه اللحظات ما بين الأمر وتأخير تنفيذ تحمل نوعًا من عدم الإيمان، فلم يتحقق القول: "إن آمنتِ ترين المجد الله". لحظات التأخير هي لحظات عدم إيمان وعصيان.
يليق بنا أن نؤمن أن فترة التأخير في تنفيذ الوصية هي وقت للعصيان بالنسبة لمن ينفذ الوصية بعد ذلك... لذلك وجب علينا أن نتذكر القول: "لا تتأخر في الرجوع إلى الرب، ولا تؤجله من يوم إلى يوم" (ابن سيراخ ٥: ٧)، والقول: "لا تقل لصاحبك اذهب وعد، فأعطيك غدًا،وموجود عندك" (أم ٣: ٢٨). يلزمنا أن نعتقد أنه دينونة على مرثا إن الكلمات: "فرفعوا الحجر" قد كُتبت مؤخرًا، وكان يجب أن تُقال فورًا بعد الكلمات: "قال يسوع: ارفعوا الحجر". ++ العلامة أوريجينوس
يقول: "ارفعوا الحجر" . ارفعوا ثقل الناموس، واكرزوا بالنعمة. "لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يُحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس. لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليُعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون" (غلا ٣: ٢١ - ٢٢). لذلك "ارفعوا الحجر". +++ القديس اغسطينوس
"قال لها يسوع:
ألم أقل لكِ إن آمنت ترين مجد الله؟"
حقًا الإيمان هو بركة عظيمة، ويصنع أمورًا عظيمة للذين يتمسكون بالحق ويتمتعون ببركات كثيرة.
بالإيمان يستطيع الناس أن يمارسوا أعمال الله باسمه. حسنًا يقول المسيح: "لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل" (مت ١٧: ٢٠). مرة أخرى: "من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها" (يو ١٤: ١٢). ماذا يعني بالأعظم منها؟ تلك التي شوهد التلاميذ يعملونها. فإنه حتى ظل بطرس أقام ميتًا، وهكذا ظهرت بالأكثر قوة المسيح. فإنه ليس عجيبًا أنه وهو حي صنع عجائب مثلما بعد موته يستطيع آخرون أن يصنعوا باسمه أعمالًا أعظم مما فعل. هذا برهان عن القيامة لا يُقاوم، فإنه حتى وإن شاهد الكل القيامة كانوا يؤمنون بها هكذا. لأنه يمكن للناس أن يقولوا إنها ظهور، أما من يرى حدوث عجائب بمجرد دعوة اسمه أعظم مما فعله حين كان بين البشر، فإنه لا يقدر أحد ألا يؤمن إلاَّ إذا كان عديم الحس.
إذن الإيمان بركة عظيمة عندما يصدر عن مشاعر وهَّاجة وحب عظيم ونفس متقدة.
بالحق يجعلنا الإيمان حكماء، ويخفي انحطاطنا البشري، ويلقي بالحجج إلى أسفل ويفلسف (يعطي حكمة) بخصوص السماويات، أو بالأحرى الأمور التي لا تستطيع حكمة البشر أن تكشفها. إنها تدركها بفيضٍ وتنجح فيها.
لنلتصق إذن بالإيمان، ولا نعتمد على الحجج الصادرة عنا . ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
"فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعًا ورفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي".
إنها لحظات رهيبة حيث رُفع الحجر فظهر الجسد، وقد فاحت رائحة النتن العنيف، بينما وقف السيد المسيح يخاطب الآب، شاكرًا له أنه استمع له. إنه من جهة يؤكد علاقته بالآب حتى يطمئن الحاضرون أنه سماوي وليس كما ادعى بعض القادة أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. ومن جانب آخر لكي يكون قدوة لنا.
ما أقوله دومًا، أقوله الآن، أن المسيح لم يتطلع كثيرًا نحو كرامته قدر ما كان يتطلع إلى خلاصنا، فلا يهتم بتقديم منطوقات سامية علوية، بل ما يمكن أن يجتذبنا إليه. لهذا فإن أقواله العلوية القديرة قليلة ومخفية، أما أقواله المتواضعة فكثيرة وفيَّاضة في مقالاته...
فلم يكن يتحدث بالأولى بطريقة عامة، لئلا تسبب دمارًا لمن يأتون بعده، ومن الجانب الآخر فلا يمتنع عنها تمامًا، لئلا يتعثر الذين كانوا في ذلك الوقت. فالذين يعبرون من الانحطاط إلى الكمال يستطيعون بتعليمٍ سامٍ منفرد أن يبلغوا إلى كل التعليم، وأما أصحاب الفكر الضعيف فإنهم ما لم يسمعوا دومًا أقوالًا في مستوى ضعيف لا يأتون إليه نهائيًا.
في الواقع بعد أقوال كثيرة مثل هذه (علوية) كانوا يريدون أن يرجمونه ويضطهدونه ويحاولون قتله ويعتبرونه مجدفًا... فعندما جعل نفسه مساويًا لله؛ قالوا: "هذا الإنسان يجدف" (مت ٩: ٣). وعندما قال: "مغفورة لك خطاياك" (يو ١٠: ٢٠) دعوه شيطانًا. وعندما قال أن من يسمع كلماته يصير أقوى من الموت، أو "أنا في الآب والآب فيَّ" (يو ٨: ٥١) تركوه. مرة أخرى قاوموه حين قال إنه نزل من السماء (يو ٦: ٣٣، ٦٠).
الآن إذ لم يستطيعوا أن يحتملوا مثل هذه المقولات، مع أنه نطق بها نادرًا جدًا وبالجهد فلو أن كل محادثاته كانت مشحونة دومًا بالأمور العلوية، من هذا النسيج، فهل كانوا يلتفتون إليه؟
لذلك كان يقول: "كما أوصاني الآب أتكلم" (يو ١٣: ٣١)؛ "لم آتِ من نفسي" (يو ٧: ٣٨)، عندئذ كانوا يؤمنون.
واضح أنهم آمنوا مما أشار إليه الإنجيلي قائلًا: "إذ قال هذه الكلمات آمن به كثيرون" (يو ٥: ٣٠). فإن كانت الأقوال التي تحمل تواضعًا تجتذب الناس إلى الإيمان، والكلمات العلوية تفزعهم، لذلك نطق بالكلمات المتواضعة من أجل السامعين. ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
من أجلنا قدم التشكرات لئلا نظن أن الآب والابن أقنوم واحد بعينه عندما نسمع عن إتمام ذات العمل بواسطة الآب والابن. لهذا فلكي يظهر لنا أن رد تشكراته ليست ضريبة يلتزم بها من هو في عجز عن السلطان، بل بالعكس أنه ابن اللَّه الذي ينسب لنفسه دومًا السلطان الإلهي، لذلك صرخ: "لعازر هلم خارجًا". هنا بالتأكيد أمرٍ لا صلاة . القديس جيروم
يصلي كابن الإنسان، ويأمر كابن الله . القديس أمبروسيوس
عندما يرفع أحد عينيه يليق به أن يرفعهما نحو السماء بطريقة لائقة، ويرفع أيضًا يدين مقدستين، خاصة عندما يقدم الصلوات بلا غضبٍ ولا جدال (١ تي ٢: ٨). فإنه عندما ترتفع العينان خلال التفكير والتأمل، واليدان ترتفعان خلال الأعمال، ترتفع النفس وتتمجد. وذلك مثل موسى الذي رفع يديه (خر ١٧: ١١)، ويقول الشخص: "ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية" (مز ١٤٠: ٢)، فينهزم عماليق، وكل الأعداء غير المنظورين، وتنتصر الأفكار الإسرائيلية (المعاينة لله) التي فينا العلامة أوريجينوس
"وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي،
ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنواأنك أرسلتني".
هنا يوضح أن العلاقة بين الآب والابن لا تستلزم مثل هذه الصلاة، لكن من أجل الحاضرين لكي يثقوا أنه على علاقة بالسماء.
الاستماع هنا ليس عن موضوع طاعة، بل هو اتحاد أبدي. بنفس الطريقة فإنه يُقال عن الروح القدس أنه يستمع للآب ويمجد الابن. إنه يمجد، لأن الروح القدس علمنا أن الابن صورة اللَّه غير المنظور (كو 15:1)، وبهاء مجده، ورسم جوهره (عب 3:1) . ++ القديس أمبروسيوس
وماذا لدى السيد المسيح أكثر من رسله إن كان هو يعمل آياته بالصلاة؟
أليق ما يُقال إن أولئك عملوا المعجزات بالصلاة، لكنهم في أكثر أوقاتهم عملوا الآيات بدون صلاة، لما دعوا باسم يسوع فقط. فإن كان اسمه قد حمل قوة هذا مقدارها، فلو احتاج هو إلى صلاة، لما كان اسمه اقتدر على شيء، وحين خلق الإنسان إلى أية صلاة احتاج؟
أما عن معادلته لأبيه في الكرامة فتظهر في مواضعٍ كثيرة، لأنه قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26)... وما الذي يكون أضعف منه إن احتاج إلى صلاة؟
فلننظر ما هي صلاته؟ قال: "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي"، ومن الذي صلى في وقت من الأوقات بهذه الصلاة؟ فقبل أن يقول شيئًا قال "أشكرك"، فقد أوضح أنه لا يحتاج إلى صلاة، وقوله: "لأنك سمعت لي يوضح أنه ليس فاقدًا سلطانه، ولكن أظهر أنه مالك إرادة واحدة مع أبيه.
فإن قلت: لِم اتخذ شكل صلاة؟ قلت لك: لا تسمع الجواب مني لكن منه، القائل: "ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني"، فقد وضع السبب الصادق لصلاته، لكي لا يظنوا أنه ضد الله، ولا يقولوا إنه ليس من الله +++ القديس يوحنا ذهبي الفم
"ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم : لعازر هلم خارجًا".
كان يمكنه أن يقيم حبيبه لعازر بكلمة هامسة أو في صمت، لكنه صرخ بصوتٍ عظيم مناديًا حبيبه: "لعازر هلم خارجًا". ذلك لكي يتأكد الحاضرون أنه أقامه بسلطانه الشخصي، لم يستخدم اسم آخر، إنما يأمر فيقوم الميت. ولعله صرخ بصوت عظيم ليدرك الحاضرون أن نفس لعازر لم تكن داخل القبر، بل يناديها السيد لتخرج من الجحيم، كما من مكانٍ بعيدٍ. أيضًا لكي يدرك الحاضرون أنه ذاك الذي قال بإشعياء النبي: "أنا الرب وليس آخر، لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مظلم" (إش ٤٥: ١٥: ١٦).
تكلم لكي ندرك أنه ذاك الذي في مجيئه الأخير يتكلم، فيسمع الأموات صوته ويحيون (يو ٥: ٢٥).
ناداه باسمه "لعازر" كمن يقيمه من نومٍ عميقٍ. يقول الله لموسى أنه يعرفه باسمه كعلامة اهتمامه به شخصيًا. لم يقل له "قم" بل "هلم خارجًا"، فحضرة المسيح واهب الحياة قدمت له الحياة، إنما صدر الأمر ليتحرك.
لماذا صرخ بصوت عظيم كمن لم يرد أن يعمل بالروح ويأمر في صمت إلاَّ لأنه أراد أن يَظهر ما هو مكتوب: "في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير سيقوم من الأموات بغير فساد" (١ كو ١٥: ٥٢)؟ فإن رفع الصوت هو استجابة لدوي البوق. لقد صرخ "لعازر هلم خارجًا". لماذا أضاف الاسم إلاَّ لئلا يظن أحد أنه قام بدلًا من آخر، أو أن الإقامة تمت عرضًا وليس بالأمر. ++ القديس أمبروسيوس
لم يقل السيد المسيح للعازر: "باسم أبي هلم خارجًا"، ولا قال"أيها الآب أقمه"؟ لماذا لم يستخدم كل هذه التعبيرات، وبعدما أخذ شكل من يصلي أظهر بكل أعماله سلطانه المستقل؟ لأن هذا أيضًا هو جزء من حكمته، ليظهر بالكلمات تنازله، وبالأعمال السلطان...
فإذ لم يكن هناك أي اتهام ضده سوى أنه ليس من عند الله، وبهذا خدعوا كثيرين، لهذا أكد ببراهين كثيرة هذه النقطة بأقواله وذلك من أجل ضعفاتهم. فقد كان في سلطانه بطرق أخرى أن يظهر في نفس الوقت اتفاقه مع الآب وإظهار كرامته، لكن الجموع لم تكن بعد قد ارتفعت بعد .
إنه لم يقل:"قم"، لكنه قال: "هلم خارجًا" مخاطبًا الميت كمن يخاطب حيًا، فما الذي يكون مساويًا لهذا السلطان؟
وإن كان قد فعل هذا بغير قوته، ماذا يكون له أكثر مما للرسل الذين قالوا: "لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟" (أع ٣: ١٢).
لو أنه لم يعمل بقوته ولم يضف ما قاله الرسل عن أنفسهم لكانوا هم بالحقيقة حكماء أكثر منه، إذ يرفضون المجد. وفي موضع آخر يقولون لماذا يفعلون هذا؟ "نحن أيضًا بشر تحت الآلام مثلكم" (أع ١٤: ١٥). إذ لم يفعل الرسل شيئًا من أنفسهم لذلك تكلموا بهذه الطريقة، لكي يحثوا الناس على ذلك، أما بالنسبة له فعندما وُجدت مثل هذه الفكرة عنه، أما كان يجب عليه أن ينزع هذه الشكوك، لو أنه لم يفعل هذه بسلطانه؟
وإنما بالحقيقة فعل المسيح عكس ذلك عندما قال: "لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا" ، لكي يؤمنوا أنه لا حاجة أن أصلي (أطلب) . ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
الآن ما هو: "هلم خارجًا" إلاَّ إظهار ما هو مخفي؟
من يعترف يخرج خارجًا.
"هلم خارجًا"؛ ما كان يمكنه فعل ذلك لو لم يكن حيًا، وما كان يمكنه أن يكون حيًا لو لم يقم مرة أخرى. لهذا ففي الاعتراف إذ يفهم الإنسان نفسه يمجد الله .
تأملوا حالة لعازر نفسه، فإنه خرج، ولكن بأربطته. كان حيًا بالفعل خلال الاعتراف، لكنه لم يصر حرًا بل كان متشابكًا إذ كان في أربطته. ماذا تفعل الكنيسة التي قيل لها: "ما تحلونه يكون محلولًا"، إلاَّ ما قاله الرب لتلاميذه: "حلوه ودعوه يمشي"؟ +++ القديس أغسطينوس
أتريد دليلًا أقوى على أن البعض يخلص بإيمان آخرين؟! لعازر مات، ومضى عليه يوم واثنان وثلاثة،وانحلت عضلاته ودب الفساد فعلًا في جسده. كيف يمكن لميت له أربعة أيام أن يؤمن، ويطلب بنفسه من المخلص؟
ولكن ما نقص عند الميت وُجد عند أختيه الحقيقيتين، فعندما أتى الرب سجدت الأخت أمامه. وعندما قال: "أين وضعتوه؟" أجابته: "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام". فأجابها: "إن أمنتِ ترين مجد اللٌه" فكأنه يقول لها: ليكن عندك الإيمان الذي يقيم جثة الميت.
كان لإيمان الأختين قوة عظيمة هكذا حتى أعاد الميت من أبواب الجحيم!
إن كان للبشر بالإيمان، واحد لحساب الآخر، يمكن أن يقوم الميت، أما يكون النفع أعظمإن كان لك إيمان خالص لأجل نفسك؟!
بلى، حتى وإن كنت غير مؤمن أو قليل الإيمان فإن اللٌه محب البشر يتعطف عليك عند توبتك.
فمن جانبك، يليق بك أن تقول بذهن أمين: "اؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني" (مر 24:9).فإنك محتاجأن تقول مثل الرسول: "يا رب زد إيماننا ". فإذ لك نصيب من جانبك، تتقبل النصيب الأعظم من اللٌه . ++ القديس كيرلس الأورشليمي
لما كان "الرب يحل المسجونين" (مز 7:146)، ويهب راحة لمنسحقي الروح والمرتعب من كلماته (إش 2:66)، ربما يقول لي أنا الراقد في قبر الخطية: "جيروم، هلم خارجًا" .
إذ لا أزال ملقيًا في مقبرة خطاياي، ومقيدًا بأربطة شروري، انتظر أمر الرب الوارد في الإنجيل: "جيروم، هلم خارجًا". ++ القديس جيروم
يا من ترقد في ظلمة الضمير وفي فساد خطاياك كما في سجن الجريمة، هلم خارجًا. لتعلن عن خطاياك فتتبرر. "الفم يعترف به للخلاص" (رو 10:10). إن اعترفت عن دعوة المسيح فستنكسر القضبان، وتنحل كل سلسلة، بل وتزول نتانة الفساد الجسدي الخطيرة . ++ القديس أمبروسيوس
"فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل،
فقال لهم يسوع : حلوه، ودعوه يذهب".
كيف خرج لعازر وهو مربوط اليدين والرجلين؛ إنه خرج كمن يحبو أو يعرج، وكان محتاجًا إلى من يحل رباطات الأكفان من جسمه.
بلا شك أن إقامة لعازر من الأموات أحدثت ضجة عظيمة في كل أورشليم التي جاء إليها كثيرون للاستعداد لعيد الفصح. أنه ليس بالحدث الطبيعي، ولا بالمعجزة التي سبق أن شاهدها أحد، خاصة بعد أن اشتموا رائحة الفساد التي حلت بالجثمان.
يقول يوحنا الرسول عن لعازر: "فخرج الميت" لنرى في فعل السيد المسيح شاهدًا له بسلطانه. وقوله: "فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل"، لكي لا يُظن أن الفعل خيالًا. فإن خروجه مربوطًا يبدو أنه ليس بأقل عجبًا من قيامته. وقول السيد المسيح للجمع: "حلوه" فلكي إذا لمسوه واقتربوا منه يعرفون بالحقيقة أنه هو ذاك. وقول السيد المسيح: "ودعوه يذهب"، لتعرف عزمه الخالي من التفخيم، لأنه ما اتبعه ولا اقتاده، ولا أراد أن يمشي معه حتى يريهم إياه. ++ القديس يوحنا ذهبي الفم
يلزمنا أن نهتم بهذا أيضًا، أن نقدم عملًا لائقًا بيسوع، فليس فقط نصلي لكي يصير الميت حيًا، بل أيضًا نصرخ إليه وندعو ذاك الذي في داخل الكهف والقبر إلى الأمور الخارج من القبر.
يلزمنا أن ندرك أنه يوجد لعازر كثيرون حتى الآن بعد أن صاروا أصدقاء يسوع، مرضوا وماتوا، وكموتى صاروا في القبر في أرض الأموات مع الموتى، ومؤخرًا صاروا أحياء بصلاة يسوع، ودعوا ليخرجوا من القبر إلى الخارج بصوت يسوع العالي.
من يثق في يسوع يخرج بالأربطة الخاصة بالموت من خطاياه السالفة، لكنه لا يزال مربوطًا حول وجهه، فلا يقدر أن يرى، ولا أن يمشى، ولا أن يفعل شيئًا ما بسبب أربطة الموت، حتى يأمر يسوع القادرين لكل يحلوه ويدعوه يمشي.
مثل هذا يخرج من أجل صوت يسوع، لكنه لا يزال مربوطًا برباطات خطاياه. إنه حي، لأنه تاب وسمع صوت يسوع، لكنه إذ لم يتحرر بعد من رباطات الخطية لا يقدر أن يسير في الحال بقدمين متحررتين، وبكونه لم يتحرر ليتمم الأمور الفائقة فقد ارتبطت يداه وقدماه بأربطةكأربطة الموتى.
مثل هذا الإنسان بسبب الموت الذي فيه ملتصقًا بأربطة يديه وقدميه تغطى وجهه بالجهالة، وارتبط به حوله.
لهذا فإن يسوع لا يرغب فيه أن يعيش فحسب ويبقى في القبر ويكون مربوطًا عن أمور الحياة التي في خارج القبر... لذلك يقول يسوع للقادرين أن يخدموه: "حلوه ودعوه يمشي" . ++ العلامة أوريجينوس